Sunday, August 31, 2008

اجتهادات شرعية في البيع بالتقسيط

حكم بيع التقسيط في الشريعة والقانون

اجتهادات شرعية في البيع بالتقسيط

د. محمد عقلة الإبراهيم

الدور الاجتماعي للما ل بدلا من

بعد أن تتبعنا أقوال العلماء في بيان معنى الأحاديث الثلاثة وعلتها انتهينا إلى النتائج التالية:

1- أن تلك الأحاديث تصلح أن تكون موطنًا مناسبًا ومظانَّ ملائمة للبحث في مشروعية البيع بالتقسيط؛ وذلك لأنها تشترك من حيث معناها في صورة هي أصل ذلك البيع والتمثل بقول البائع للمشتري أبيعك هذه السلعة نقدًا بكذا، ونسيئة بكذا.

2- أن تحريم هذه البيوع يستند إلى علة تتمثل في جهل المتعاقدين بالثمن، وسد ذريعة أن يكون هذا البيع طريقة إلى الربا المحرم.

فالقول بعدم صحة هذه البيوع مردُّه إلى أن الصيغة الصادرة مشتملة على صيغتين في آن واحد، فلم يجزم البائع ببيع واحد، وأن الثمن مجهول، هل هو المعجل أم المؤجل؟ وإذا كان الإيجاب غير جازم فلا يصلح، ويكون عرضًا، فإذا قبل الموجَّه إليه العرض الخاص بإحدى الصفقتين كان إيجابًا موجها إلى الطرف الأول. فإن قبل تم العقد، وإلا فلم يتم العقد.

في ضوء ما تقدم كنا نتوقع أن يكون البت في الحكم الشرعي لبيع التقسيط أمرًا ميسورًا يكفي فيه التثبت من وجود العلة المذكورة، فيحكم بالجواز في الحالة الأولى وبالبطلان في الحالة الثانية.

ولكن حكمة الله تبارك وتعالى ورحمته بعباده -التي كان اختلاف عقول البشر عامة وعلماء الفقه خاصة مظهرًا من مظاهرها- اقتضتا أن تعمل تلك العقول التي تحررت من قيود الخوف والرهبة، فانطلقت تلتمس الحقيقة في هدي نور الله فيما بين يديها من النصوص تأملاً وترديد فكر، فيكون نتاج ذلك ثمرات خيرة من الأفكار والآراء والأحكام المتباينة في خطة سيرها المتفقة في هدفها ألا وهو نشدان مرضاة الله -عز وجل-، والتمكين لشريعته في الأرض.. وإذا بنا نتيجة لذلك أمام آراء متعددة لا رأي واحد، وبصدد أحكام لا حكم واحد في هذه المسألة، وأبرز تلك الأحكام:

1 - أن بيع التقسيط غير جائز شرعًا.

2 - أن بيع التقسيط جائز شرعًا.

3 - رأي وسط يذهب إلى عدم القول بجوازه أو عدم جوازه مطلقًا بل يرى أنه مكروه، وشبهة الأولى اتقاؤها.

وممن قال بعدم الجواز، وإنه لا يصح زيادة الثمن في مقابل تأجيل قبض الثمن: زين العابدين علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والإمام يحيى، وأبو بكر الرازي الجصاص الحنفي.

أما القول بجواز بيع التقسيط، وبأن أخذ زيادة في السعر مقابل التأجيل أمر يقره الشرع فهو قول جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وبه قال زيد بن علي والمؤيد بالله والمهدي والمفتي من شيعة آل البيت.

أما القول الثالث الذي اتخذ موقفًا وسطًا بين القولين السابقين فهو ما ذهب إليه د. رفيق المصري في كتابه "مصرف التنمية الإسلامي".

وقد لخص الشيخ أبو زهرة سبب الخلاف بين المجيزين والمانعين بقوله: "ويعود سبب الخلاف لأجل الزيادة، أتُعد الزيادة في مقابل الأجل كالزيادة في الدَّين في نظير الأجل أم لا تُعد؟ فالذين قاسوا الزيادة في مقابل الأجل على الزيادة في الدين في نظير الأجل وجعلوهما صورة واحدة قالوا بالحرمة، وأما الذين فرقوا بينهما فقالوا بالحل".

أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط

استدل القائلون بأن بيع التقسيط لا يصح شرعًا بأدلة من الكتاب والسنة والآثار والمعقول، فمن القرآن الكريم استدلوا بقوله سبحانه وتعالى: "وأحل الله البيع وحرم الربا" (البقرة: 275)، فهي تفيد تحريم البيوع التي يؤخذ فيها زيادة مقابل الأجل لدخولها في عموم كلمة الربا.

كما استدلوا بقوله عز شأنه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ" (النساء: 29).

فقد جعلت الآية الرضا شرطًا لحِل الكسب والربح في المبادلات التجارية، وإلا كان ذلك الكسب حرامًا وأكلاً لأموال الناس بالباطل، وعامل الرضا غير متوفر في البيع بالتقسيط؛ لأن البائع مضطر للإقدام عليه ترويجًا للسلعة، والمشتري مضطر له رغبة في الحصول على السلعة التي تمس حاجته إليها ولا يملك ثمنها حالاً، فيرغم على دفع الزيادة مقابل الأجل.

أما من السنة النبوية فاستدلوا بأحاديث منها:

نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه ابن مسعود -رضي الله عنه-، "عن صفقتين في صفقة" (سبق تخريجه). وقد مر معنا ما رواه أحمد عن سماك في تفسير الحديث بقوله: "هو الرجل يبيع الرجل فيقول: هو بنساء كذا، وهو بنقد كذا وكذا".

وقد علّق الشوكاني على ذلك بقوله: وفي هذا التفسير متمسك لمن قال: "يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء".

كما استدلوا بقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه-: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" (سبق تخريجه). وهذا يعني أن من باع بأخذ زيادة مقابل الأجل يكون قد دخل في الربا المحرم إذا لم يأخذ الثمن الأقل.

وهذا يفيد أنه لا يجوز للبائع أن يبيع سلعته بأكثر من سعر يومها تجنبًا للوقوع في ربا النسيئة.

قال صاحب الروضة الندية: فالحديثان (حديث ابن مسعود وحديث أبي هريرة) قد دلا على أن الزيادة لأجل النَّساء ممنوعة، ولهذا قال: "فله أوكسهما أو الربا" (سبق تخريجه). والأعيان التي هي غير ربوية داخلة في عموم الحديثين.

واستدلوا كذلك بما أخرجه أبو داود في سننه عن محمد بن عيسى بن هشيم عن صالح بن عامر -كذا قال محمد- قال: حدثنا شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي أو قال: قال علي: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك" (رواه أبو داود).

قالوا: وبيع التقسيط من بيع المضطر؛ لأنه لا يقبل بالزيادة لأجل المدة إلا المضطر في الغالب. ويؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم "إنما البيع عن تراضٍ" (رواه ابن ماجة)، وهو يفيد أن البيع الجائز شرعًا ما توفر فيه عنصر الرضا من المتعاقدين بإجراء العقد، ولا رضا مع الاضطرار والإكراه فيكون البيع باطلاً. وعليه، فالبائع بأجل والمشتري إلى أجل كلاهما مضطر للبيع ولا يصدق عليهما قوله سبحانه: "إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ" (النساء: 29)، وقوله صلى الله علي وسلم: "إنما البيع عن تراضٍ" (سبق تخريجه).

أما من المعقول (الأدلة العقلية) فاستدلوا بأمور منها:

أن الزيادة في الثمن المؤجل هي من باب الربا واستدلوا لقولهم هذا بما يأتي:

1 - أن الزيادة في الثمن هي في نظير الأجل والتأخير، إذ لم يقابلها إلا المدة والتنفيس بالأجل فقط، ومتى كانت الزيادة كذلك فهي زيادة من غير عوض، فتنطبق عليها كلمة (الربا)، وتتناولها أدلة تحريم الربا وتندرج تحتها.

2 - أن القول ببطلان البيع بأكثر من الثمن إلى أجله خشية أن يكون ذريعة إلى الربا، فيكون بمنزلة جارية نقدًا وعشرة دنانير إلى شهرين بعشرين دينارًا إلى شهرين.

3 - أن الزيادة مقابل الأجل هي من باب الشرطين في بيع وسلف وبيع: فصفة الشرطين في بيع كما تقدمت: أن يقول المبيع بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا وذلك غير جائز. والبيع مع السلف أن يبيع منه شيئًا ليقرضه أو يؤجله في الثمن ليعطيه على ذلك ربحًا.

يقول د. عبد السميع المصري، بعد أن نقل التفسيرين المتقدمين عن المبسوط: "وظاهر مما تقدم عن صاحب المبسوط أن العلة في عدم الجواز في الصورتين عند الأحناف -الحنفية- هي الربا؛ لأنه في الصورة الأولى جعل الأجل في الثمن مقبلاً بالزيادة فيه صراحة فهي زيادة في الدين بغير عوض، وهي معنى الربا. وفي الصورة الثانية يحتال على الربا في القرض؛ فيبيع شيئًا مع المحاباة في ثمنه بمقابل القرض".

ويتابع قائلاً: "ولا شك عندي في أن هذا هو روح الشريعة الإسلامية، وهو الغاية من تحريم الربا في الإسلام؛ لأن الزيادة في الثمن هي مقابل الأجل في التقسيط أي مقابل استغلال حاجة المشتري الضعيف بينما الإسلام دين الرحمة والإخاء والتعاون، يقول سبحانه وتعالى: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" (البقرة: 280). وإذا لم يتعادل سعر النقد والتقسيط فقد ذهبت عدالة التوزيع؛ ولم يستطع ذو الدخل الصغير أن ينال حظه من الرفاهية…".

4 - القياس على إنقاص الدين عن المدين مقابل تعجيل الدفع، إذ لا فرق بين إنقاص الثمن مقابل إنقاص المدة، وبين زيادة الثمن مقابل زيادة المدة، أو لا فرق بين أن نقول سدد الدين أو زدْ في نظير الأجل، وأن تبيع بزيادة في الثمن لأجل التأجيل، فالمعنى فيهما جميعًا أن الأجل له عوض وهو بمعنى الربا.

وبيان ذلك كما قال أبو بكر الجصاص: "أنه لو كان لرجل على آخر ألف درهم دين مؤجلة فصالحه منها على خمسمائة حالة فلا يجوز، لما روي عن ابن عمر أنه سئل عن الرجل يكون له على الرجل الدَّين إلى أجل فيقول له: عجل لي وأضع عنك فقال: هو ربا. وروي عن زيد بن ثابت أيضًا النهي عن ذلك، وهو قول سعيد بن جبير والشعبي والحكم، وقول أصحابنا وعامة الفقهاء. ومما يدل على بطلانه تسمية ابن عمر إياه ربا، وأسماء الشرع توقيف. ولأنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضًا مؤجلاً بزيادة مشروطة فكانت الزيادة بدلاً من الأجل فأبطله الله تبارك وتعالى وحرمه، وقال: "وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم" (البقرة: 279). وقال تعالى: "وذروا ما بقي من الربا" (البقرة: 278)، وحظر أن يؤخذ للأجل عوض، فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجلة فوضع عنه على أن يعجله، فإنما جعل الحط مقابل الأجل فكان هذا هو معنى الربا الذي نص الله على تحريمه.

ولا خلاف أنه لو كان له عليه ألف درهم حالة فقال له: أجلني وأزيدك فيها مائة درهم لا يجوز؛ لأن المائة عوض عن الأجل، كذلك الحط في معنى الزيادة، إذ جعله عوضًا من الأجل. وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الإبدال عن الآجال".

وجاء في حاشية ابن عابدين "أنه إذا بيع الشيء بثمن مؤجل ثم وجب الأداء معجلاً فإنه ينقص من الثمن بمقدار التعجيل"، وبذلك يتبين أن الفقهاء أباحوا الزيادة في نظير الأجل، وأي فرق بينها وبين الربا.

5 - أن أبا حنيفة قال فيمن دفع إلى خياط ثوبًا فقال: إن خطته اليوم فلك درهم، وأن خطته غدًا فلك نصف درهم، إن الشرط الثاني باطل، فإن خاطه غدًا فله أجر مثله، لأنه جعل الحط مقابل الأجل، والعمل في الوقتين على صفة واحدة فلم يجزه لأنه بمنزلة بيع الأجل.

مما تقدم يتبين لنا أن عمدة أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط هو أن ذلك ضرب من الربا المحرم، ومستندهم الرئيسي في ذلك أن الزيادة في الثمن هي في مقابل الأجل، والأجل ليس بالشيء الذي يستحق عوضًا فتكون زيادة بلا عوض وهو عين الربا الذي نهى الشرع عنه وحرمه.

أدلة القائلين بجواز بيع التقسيط

استدل القائلون بجواز بيع التقسيط بأدلة من الكتاب والسنة وإكثار والإجماع والعرف والمعقول:

فمن القرآن الكريم استدلوا بما يأتي:

عموم الأدلة القاضية بالجواز كقوله سبحانه وتعالى: "وأحل الله البيع وحرم الربا" (البقرة: 275).

وهو نص عام يشمل جميع أنواع البيوع، ويدل على أنها حلال، إلا الأنواع التي ورد نص بتحريمها، فإنها تصبح حرامًا بالنص مستثناة من العموم، ولم يرد نص يقضي بتحريم جعل ثمنين للسلعة؛ ثمن معجل وثمن مؤجل؛ فتكون حلالاً أخذًا من عموم الآية.

وفي قوله عز وجل: "إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم" (النساء: 29) تكون الزيادة في الثمن مقابل الأجل داخله في عموم النص؛ إذ إن أعمال التجارة تنبني على البيع نسيئة، ولا بد أن تكون لهم ثمرة، وتلك الثمرة داخلة في باب التجارة، وليست داخلة في باب الربا. فالثمن في البيع الآجل هو للسلعة مُراعى فيه الأجل، وهو من التجارة المشروعة المعرضة للربح والخسارة.

ومن جهة أخرى، فالرضا ثابت في هذا البيع؛ لأن من يفعل ذلك من التجار إنما يجعله طريقا إلى ترويج تجارته. فهو إجابة لرغبته.

كما أن الذي تسلم العين دون دفع ثمن حال قد تسلم العين منتفعا بها مغلة؛ موضع اتجار، وهذا لا ينافي رضاه.

واستدلوا كذلك بقوله عز شأنه: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه" (البقرة: 281). وبيع السلعة بثمن مؤجل مع الزيادة مما تنتظمه هذه الآية، لأنها من المداينات الجائزة فتكون مشروعة بنص الآية.

أما من السنة النبوية والآثار:

فقد ورد فيها ما يدل على أن الشارع قد سوغ جعل المدة عوضا عن المال، وأنه يجوز أن يختلف الثمن المؤجل عن الثمن المعجل بزيادة في المؤجل، وأن هذه الزيادة مباحة ومن ذلك:

ما رُوي أن "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يجهز جيشا، فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل" (رواه الحاكم)، وهو دليل واضح على جواز أخذ زيادة على الثمن نظير الأجل.

وما رُوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أمر بإخراج بني النضير جاء ناس منهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا نبي الله، إنك أمرت بإخراجنا، ولنا على الناس ديون لم تحل؟ فقال عليه الصلاة والسلام ضعوا وتعجلوا" (أخرجه الحاكم ومالك في الموطأ).

والحديث دليل على أنه لو بيع شيء ما بالنسيئة، واضطر المشتري للسداد قبل الاستحقاق يجوز تخفيض الثمن بمقدار يتكافأ مع المدة التي تفصل تاريخ السداد الفعلي عن تاريخ الاستحقاق، فإذا جاء التخفيض لقاء التعجيل فلا بد عقلا من جواز الزيادة لقاء التأجيل وهو ما قال به ابن عابدين.

ومن الآثار الدالة على جواز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من المعجل، وجاز زيادة الثمن في الشراء بالآجل ما نقله الشيخ أبو زهرة عن كتاب المجموع، والروض النضير في الفقه الزيدي الشيعي عن أبي خالد قال: سألت زيد بن علي عن رجل اشترى سلعة إلى أجل ثم باعها مرابحة والمشتري لا يعلم أنه اشتراها إلى أجل ثم علم بعد ذلك؟ فقال: هو بالخيار إن شاء أخذ وإن شاء رده". وقد عقب على هذا القول بأنه يفيد حكما بالنص وآخر بالالتزام: "أما الحكم الذي استفيد بالنص فهو أن عدم ذكر الأجل في المرابحة إذا كان البائع قد اشترى إلى أجل يعد خيانة في المرابحة، وهي خيانة لا يمكن تقديرها كالخيانة في الزيادة بالثمن، وأن الحكم في هذه الحالة هو أن المشتري بالخيار بين إمضاء العقد وبين فسخه. والحكم الالتزامي هو أنه يجوز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من الثمن المعجل، ويتبين ذلك من خلال أن ترك ذكر البائع للأجل في المرابحة خيانة؛ لأن شأن التجارة أن يكون الثمن العاجل أقل من الثمن الآجل، وترك ذكر الأجل والبيع بثمن عاجل غش، لأنه لم يبين ما استفاده بالتأجيل، والربح مع هذا التأجيل يكون على غير أساس سليم".

قال صاحب الروض النضير "وأعلم أنه يُؤخذ من كلام الإمام -زيد بن علي- أن بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النَّساء جائز، ولهذا ثبت للمشتري الآخر الخيار؛ إذ لولا زيادة الثمن في شراء الآجل لم يظهر لإثبات الخيار وجه".

والإجماع: يدل على أن البيع بالتقسيط لا بأس به؛ فالمسلمون لا يزالون يستعملون مثل هذه المعاملة، وهو كالإجماع منهم على جوازها.

كما أن العرف قد جرى على أن النقد الحال أعلى قيمة من النقد المؤجل، وطالما أن العقد ابتداء لم ينص على سعرين فهو حلال.

أما عن القياس والمعقول فاستدلوا بما يأتي:

* أن البيع إلى أجل مع زيادة الثمن هو بيع بثمن معلوم من المتبايعين بتراضيهما فوجب الحكم بصحة البيع كالبيع بثمن حال.

* القياس على السلم: فالبيع إلى أجل من جنس بيع السلم، وذلك أن البائع في السلم يبيع في ذمته حبوبا أو غيرها مما يصح السلم فيه بثمن حاضر أقل من الثمن الذي يباع به في وقت السلم فيكون المسلم فيه مؤجلا والثمن معجلا، فهو عكس مسألة البيع بالتقسيط، وهو جائز بالإجماع، والحاجة إليه ماسة كالحاجة إلى السلم، والزيادة في السلم مثل الزيادة في البيع إلى أجل سببها فيهما تأخير تسليم المبيع في مسألة السلم، تأخير تسليم الثمن في البيع إلى أجل.

* القياس على بيع المرابحة: فإذا كان الأجل معلوما في البيع بأجل صح البيع ولا شيء فيه؛ لأنه من قبيل المرابحة، وهي نوع من أنواع البيوع الجائزة شرعا التي يجوز فيها اشتراط الزيادة في السعر في مقابلة الأجل؛ لأن الأجل وإن لم يكن مالاً حقيقة إلا أنه في باب المرابحة احتراز عن شبهة الخيانة، وبشرط ألا تكون الزيادة فاحشة، وإلا كانت أكلا لأموال الناس بالباطل.

* لأن للأجل حصة من الثمن، ولهذا تزاد قيمة ما يباع بثمن مؤجل على ما يباع بثمن حال. فما دام البائع قد حدد الثمن وعيَّنه لمن يشتري بثمن حال، وحدد الثمن وعينه لمن يشتري بثمن مؤجل، وقد اختار المشتري الشراء بأحد الثمنين، فالبيع صحيح شرعا، ولا شبهة للربا فيه.

فالزيادة التي تضاف على الأقساط هي حصة الأجل من الثمن وهي الفرق بين ثمن السلعة إذا بيعت بثمن حال وقيمتها إذا بيعت بثمن مؤجل، والشريعة الإسلامي شريعة معانٍ وحقائق لا شريعة ألفاظ وأسماء تحرم الشر إذا سمي باسم وتبيحه إذا سمي بآخر.

* أن الأصل في الأشياء والعقود والشروط عند الفقهاء الإباحة متى كانت برضا المتعاقدين الجائزي الأمر فيما تبايعا، ولا يحرم منها ولا يبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه أو نسخه أو تقييده أو تخصيصه بنص أو قياس. ولما لم يرد دليل قطعي الثبوت والدلالة على تحريم البيع بالتقسيط، فيبقى على الأصل وهو الإباحة، ومن ادعى ذلك فعليه الدليل، بل قد ورد في الكتاب والسنة الأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عن الغرر ونقص العهود والخيانة، وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به، علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده، ومقصود العقد هو الوفاء به، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العقود دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة.

في دليل الرأي الوسط

خلاصة هذا الرأي -الذي ذهب إليه د. رفيق المصري- أن البيع إلى أجل مع زيادة الثمن مقابل ذلك ليس حرامًا على الإطلاق ولا حلالا على الإطلاق بل هو مكروه، وما كان كذلك فيخضع لحكم الشبهة التي نص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على موقف الشرع منها في حديثه المشهور: "إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه" (أخرجه البخاري).

ويرى أن تأمين قروض مجانية للمستهلكين يخفف من ظاهر اللجوء إلى البيع بثمن أجل مقسط، كما يؤدي إلى الحد من زيادة الثمن.

مناقشة أدلة الآراء الثلاثة والترجيح بينها

أولا: مناقشة أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط:

ناقش جمهور الفقهاء أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط على النحو التالي:

أجابوا عن استدلالهم بقوله تعالى: "وأحل الله البيع وحرم الربا" (البقرة: 275) بأن الآية نص عام يشمل جميع أنواع البيع، ويدل على أنها حلال إلا ما خصه الدليل، ولم يقم نص يدل على حرمة جعل ثمنين للسلعة مؤجل ومعجل فيبقى حلالاً عملاً بعموم الآية.

ومن جهة أخرى، فإن آية الربا لا تتناول محل النزاع؛ لأن الحديث في البيع بثمن مؤجل إنما يقع على السعر (الثمن)، وليس للسعر استقرار لما فيه من تفاوت بحسب الغلاء والرخص، والرغبة في البيع وعدمها، فلم يكن أصلا يرجع إليه في تعليق الحكم به، وحيث خرجت آية الربا عن أن تكون داخلة في محل النزاع، انتفت الحاجة إلى النظر فيما يعارضها، وما يترتب عليه.

وأما استدلالهم بقوله عز وجل: "لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" (النساء: 29)، وأن عنصر الرضا مفقود في البيع بالقسط فيكون باطلا فيجاب عنه:

بأن الرضا ثابت؛ لأن من يبيع بثمن مؤجل له سلطة تامة، ويتمتع بكامل الحق في تحديد السعر الذي يريد بحسب حالة البيع من تعجيل أو تأجيل، وهو إذ يطلب ثمنًا مؤجلاً فإنما يفعل ذلك وسيلة من وسائل ترويج بضاعته، فهو يلبي لديه رغبة في الحصول على الثمن الأعلى نظير تأخير الدفع، وما كان كذلك فلا اضطرار فيه، وأما المشتري فإنه كذلك بالاختيار في الامتناع عن الشراء أو البحث عن تاجر آخر أو سلعة بديلة، أو أن يقترض قرضا حسنا ليدفع بالثمن المعجل، ومع ذلك فقد حصل على السلعة التي يريد دون أن يدفع ثمنًا في الحال، وهي للسلعة محل الانتفاع وله فيها مصلحة.

وأما استدلالهم بحديث النهي عن صفتين في صفقة وتفسير سماك بما يفيد منعه فيجاب عنه:

أن هذا الحديث يحتمل أكثر من تفسير، فكان يحتمل أن يكون المراد به أبيعك هذه السلعة بألفٍ نقدًا وبألفين نسيئةً، ويُحتمل أن يراد به بعتك هذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا. أو أن يسلف دينارًا في قفيز حنطة إلى شهر، فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: يعني القفيز فصار بيعتين في بيعة. واحتمال الحديث لتفسير خارج عن محل النزاع يقدح في الاستدلال به على المتنازع فيه.

على أن غاية ما في الحديث من دلالة هي المنع من البيع إذا وقّع على صورة أبيعك نقدًا بكذا ونسيئة بكذا لا إذا قال من أول الأمر نسيئة بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يومه، مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة، ولا يدل الحديث على ذلك، فالدليل أخص من الدعوى.

ومن جهة أخرى، فالنهي في الحديث محله فيما إذا قبل المشتري على الإبهام ولم يعين أي الثمنين، أما لو قال: قبلت بألف نقدًا أو بألف نسيئة صح ذلك.

أما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" (أخرجه أبو داود والحاكم)، وقولهم إنه يفيد أنه من باع بثمن مؤجل أكثر من الثمن الحال فعليه أن يأخذ بالأقل منهما وإلا دخله الربا المحرم فجوابه: أن في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غيره، والمشهور عنه -صلى الله عليه وسلم- نهيه عن البيعتين في بيعة.

وعلى فرض صحته، فهو لا يقيد تحريم المبيع بثمن مؤجل أكثر من الثمن الحال، بل يفيد أن المتبايعين إذا تفرقا دون تحديد وتعيين أحد الثمنين، فما يستحقه البائع وهو أقل الثمنين إلى أبعد الأجلين كي لا يقعا في الربا المحرم بصورة قطعية. كما يجاب عنه بما قاله الشوكاني في حديث الصفتين في صفقة المتقدم.

ومن جهة أخرى، فإن ابن القيم قد فسر الحديث بأن يبيع الرجل بمائة مؤجلة ثم يشتريها منه بمائتين حالة، فإن أخذ الثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهو من أعظم الذرائع إلى الربا.

وأنه لا يعني النهي عن البيع بخمسين حالة أو بمائة مؤجلة فهي ليست قمارًا ولا جهالة ولا غررًا ولا شيئًا من المفاسد، فإن البائع خير المشتري بين أي من الثمنين شاء، وليس هذا بأبعد من تخييره بعد البيع بين الأخذ والإمضاء ثلاثة أيام.

أما حديث النهي عن بيع المضطر وقولهم بأنه لا يقدم على دفع ثمن أعلى مع تأخير الدفع إلا المضطر في الغالب فيجاب عنه بالآتي:

أنه جاء في سند الحديث: رواه أبو داود عن محمد بن عيسى بن هشيم عن صالح بن عامر كذا قال: حدثنا شيخ من تميم.. قال في عون المعبود: قال الشيخ في إسناد الحديث رجل مجهول لا ندري من هو وقال ابن مفلح: صالح لا يعرف، تفرد عنه هشيم، الشيخ لا يعرف، تفرد عنه هشيم، والشيخ لا يعرف أيضًا، ولأبي يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا روح بن حاتم، حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن محكول، فقد بلغني عن حذيفة أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم.. فذكر الحديث وفيه: "إلا أن بيع المضطرين حرام"، والكوثر ضعيف بإجماع، قال أحمد: أحاديثه بواطيل ليس بشيء.

أما قولهم بأن الزيادة في الثمن المؤجل من باب الربا، واستدلالهم على ذلك بأنها زيادة في نظير الأجل، ولا يقابلها عوض فتكون محرمة فالجواب عنه:

بأن القول في تحريمها لكون الزيادة في الثمن المؤجل من باب الربا، واستدلالهم على ذلك بأنها زيادة في نظير الأجل، ولا يقابلها عوض فتكون محرمة فالجواب عنه:

بأن القول بتحريمها لكون الزيادة في مقابل التنفيس بالأجل فقط، فلا يخفى أن تحريم مثل ذلك مفتقر إلى دليل والمسألة محتملة للبحث والمناقشة.

وأما القول بأن الزيادة لا يقابلها عوض فمردود، وذلك لأن البائع حين رضي بتسليم السلعة إلى المشتري بثمن مؤجل إنما فعل ذلك من أجل أن انتفاعه بالزيادة، والمشتري إنما رضي بدفع الزيادة، والمشتري إنما رضي بدفع الزيادة من أجل المهلة، وعجزه عن تسليم الثمن نقدًا. فكلاهما منتفع بهذه المعاملة، فلا يصدق القول بأن الزيادة بغير مقابل.

وأما قولهم ببطلان البيع بثمن مؤجل يزيد على الحال خشية أن يكون ذريعة إلى الربا، فيكون بمنزلة جارية وعشرة دنانير إلى شهرين، بعشرين دينارًا إلى شهرين فيُجاب عنه: بأنه لو رأى رجل جارية ثيبا عند رجل فأعجبته، فسأله أن يزوجه إياها، فاشتراها منه بمائة دينار إلى سنة، فقبضها فوطئها فلم ينتقصها ذلك شيئا ثم باعها منه بخمسين دينارًا إلى ذلك الأجل، فتكون قد رجعت له جاريته وبقي له خمسون دينارًا إلى ذلك الأجل، إنما ينبغي أن تبطل هذه الصورة، ويجعل كأنه استأجرها بالخمسين دينارًا الزيادة ليطأها. وقد قال المخالفون بجوازها، فأجازوا ما ينبغي أن يبطل، وأبطلوا ما هو جائز من الزيادة مقابل الأجل.

وأما قولهم بأن الزيادة مقابل الأجل هي من باب الشرطين في بيع وسلف وبيع، وقد نص صاحب المبسوط على عدم جوازهما لأنهما من باب الربا؛ لأن الزيادة مقابل الأجل، فالجواب عنه: أن قول صاحب المبسوط محمول على ما إذا ذكر ثمنين عاجلاً أو آجلاً، ولم يحدد أحدهما، والقول بالبطلان في هذه الحالة قول عامة الفقهاء بسبب الجهالة، وسدًا لذريعة الربا. ولقد جاء في كتاب المبسوط ما يدل صراحة على جواز زيادة الثمن مقابل الأجل إذا كان ذلك معلومًا للمتعاقدين، حيث يقول: "وإذا اشترى شيئا إلى أجلين وتفرقا عن ذلك لم يجز لنهيه -صلى الله عليه وسلم- عن الشرطين في بيع، وإن ساومه على ذلك ثم قاطعه على أحدهما، وأمضى البيع عليه جاز".

وأما القول بأن زيادة الثمن المؤجل من الحال في البيع بالتقسيط هي مقابل استغلال حالة المشتري فتنتفي الرحمة والعدالة، فيرد عليه بأن العلماء حين قالوا بجواز بيع التقسيط قد قيدوا ذلك بشروط سنأتي على ذكرها، ومنها ألا تتضمن الزيادة غبنا فاحشا للمشتري، علما بأن هذا الغبن ليس مقصورًا على البيع بالتقسيط بل قد يكون بالنقد، ولكن عند ضعف الوازع الديني، وغياب الحس الإيماني.

وبالإضافة إلى ما تقدم فهناك فروق جوهرية بين البيع بالنسيئة والربا، أبرزها ما يأتي:

1. أن الربا زيادة أحد المتساويين على الآخر، ولا تساوي بين الشيء وثمنه مع اختلاف جنسيهما، فلا يصح تحريم الزيادة في البيع بثمن مؤجل لكنها ربا.

2. أن المبيع في حالة البيع سلعة لها منافع وغلات، وإن كانت مما ينتفع به باستهلاكه فإن أسعارها تختلف باختلاف الأزمان، فهي في زمن بسعر وفي غيره بسعر، فإذا احتاط البائع لنفسه فباعها بثمن مؤجل مرتفع ومعجل غير مرتفع فإن موضع المعاملة يقبل الارتفاع والانخفاض في الأزمان، وله غلات بنفسه، أما النقود في حالة الربا فهي وحدة التقدير، فالمفروض ألا يؤثر فيها الزمان، وينبغي أن تكون كذلك دائما، لأنها ليست سلعا ترتفع وتنخفض. وعليه، فما يأخذه البائع بثمن مؤجل فرقا بين العاجل والآجل إنما يأخذه ثمن غلة، بخلاف الديون التي تجري في النقدين، فإن من يتسلمها يتسلم عينا لا تختلف فيها الأسعار باختلاف الأزمنة، لأنها مقومة الأسعار، وهي لا تغل بنفسها، بل تغل بالاتجار وتنقلها من الأيدي ببضائع تعلو وتنخفض، فالبضائع هي التي تغل، وليست هي موضع الدَّين.

3. أن هناك فرقا بين أن يكون الأجل مراعى عند تقدير ثمن السلعة في البيع بثمن مؤجل وأن يكون الأجل قد خصص له جزء معين من المال بالإضافة إلى المقدار الذي جعل بدلا في المعاوضة.

4. أن هناك فرقا بين أن يبيع شخص سلعة تساوي في السوق الحاضرة مائة بمائة وخمسة مؤجلة، وأن يقترض شخص من آخر إلى أجل معين على أن يردها إليه عند حلول الأجل مائة وخمسة، فإن الأول جائز ولا شيء فيه من الربا فإن المقدار كله المائة والخمسة قد جعل ثمنا للسلعة والسلعة التي كان سعرها في السوق الحاشرة مائة ممكن أن تباع مع تأجيل الثمن وعدم تأجيله بمائة وبمائة وخمسة وبمائة إلا خمسة على حسب الظروف واختلاف الرغبات. وأما الثاني فغير جائز لأنه من ربا النساء الذي جعل فيه الزمن مقصودًا قصدًا أصليا في العقد مفروضا له قدر معين من الثمن يتزايد هذا المقدار عادة إذا حل الأجل، ولم يوف المدين بأداء الدين.

والخلاصة أن المائة والخمسين في صورة البيع بها إلى أجل وقعت كلها ثمنا للسلع التي كان تباع بذلك الثمن حالا. وأما المائة والخمسة في صورة اقتراض المائة بمائة وخمسة فإنها وقعت بدلاً لشيئين المائة بدل المائة، والخمسة بدل الزمن وثمن له خاصة، وهذا لا شك في أنه الربا الممنوع.

إن البيع بالتقسيط فيه تخيير للمشتري بين الشراء نقدًا بثمن أقل أو بثمن أكثر مؤجلاً بخلاف الربا فإنه لا تخيير فيه.

كما أن الربا استغلال للناس، ومص للدماء، وخيانة للمجتمع، وظلم للطبقة الكادحة من قبل أهل الطمع والجشع، أما البيع بالتقسيط فهو تيسير لمعاملات الناس وتخفيف عنهم.

إن البيع بثمن مؤجل لا تحدث فيه زيادة في الثمن حتى ولو ماطل المشتري في الدفع عند حلول أجل الوفاء فليس للبائع إلا ما اتفق عليه، وذلك بخلاف عقد الربا حيث يستمر المقترض في دفع الفوائد في حالة عدم تسديد القرض حتى يتضاعف بشكل كبير؛ إذ في الغالب قد تكون الفائدة بسعر أعلى من السعر العادي عند التأخير في الدفع.

إن البيع بالتقسيط يترتب على من يتعامل به مختلف آثار ومقتضيات البيع بالطرق الشرعية، ولا سيما ما يتعلق بالخيارات، وليس الأمر كذلك فيما يتعلق بالقرض بفائدة ربوية.

إن الثمن في البيع بالأجل هو ثمن السلعة مُراعى فيه الأجل وهو من التجارة المشروعة المعرضة للربح والخسارة، وأما الزيادة في الربا فهي بلا مقابل وهو الذي حرمه الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لأخطاره وأضراره.

إنه في حالة البيع بثمن مؤجل يفترض أن تكون العلاقة بين البائع والمشتري علاقة تكافؤ في الأعم الأغلب ولا عبرة للحالات الشاذة؛ لأن القدرة على المساومة والتفاوض مفتوحة لكلا الطرفين على قدم المساواة، أما في حالة القرض الربوي فيفترض عدم التكافؤ؛ إذ إن طرفًا فيها يعاني من حالة صعبة بالنسبة للطرف الآخر.

إن التبادل في حالة الربا يتم على أشياء مثلية، في حين أن التبادل في حالة البيعتين على أشياء مختلفة سلعة مقابل نقد، وهذا الاختلاف في الأشياء المتبادلة هو الذي ينشئ النشاط التجاري المفيد المنتج في البيع بالمقارنة مع النشاط الربوي.

أما القول المانع من بيع التقسيط استنادًا للقول بأن الزيادة في البيع بالنسيئة هي مقابل الزمان فقد ناقشه جمهور الفقهاء على النحو التالي:

إن الزيادة في الثمن المؤجل لا تتعين عوضا من الزمان، بدليل أن بعض الناس يبيع آجلاً بأقل مما اشترى لحاجته إلى البيع وتصريف السلع أو لتوقعه انخفاض الأسعار في المستقبل. ومن التجار من يبيع بأقل من القيمة الحقيقة بثمن حال أو مؤجل فلا تتعين الزيادة للزمان بل الزيادة في أكثر الأحيان غير متعينة.

إننا لو سلمنا بجعل الزيادة مقابل التأخير والزمن كما دلت على ذلك بعض الأحاديث والآثار فإنما منع الشارع منها إذا كانت ابتداء؛ كما كان عليه أمر الجاهلية في قولهم. فإما أن تقضى وإما أن تربى.

وأما استدلالهم بكون الزيادة في مقابل الأجل بالقياس على إنقاص الدين عن المدين مقابل تعجيل الدفع، وهو غير جائز بدليل تسمية ابن عمر -رضي الله عنهما- له ربا، ونهي زيد بن ثابت وغيره عنه، وبدليل إبطال أبي حنيفة لشرط التعجيل في خياطة الثوب مقابل زيادة الأجر، وبدليل عدم جواز زيادة الدين الحال مقابل تأجيل صاحبه مدة.

والجواب عن ذلك أن ابن أبي شيبة قد أخرج من مصنفه أن ابن عباس -رضي الله عنهما- سئل عن الرجل يكون له الحق على الرجل إلى أجل فيقول له عجل لي وأضع عنك كذا، فقال لا بأس في ذلك؛ إنما الربا أن يقول المدين أخِّر لي وأنا أزيدك وليس عجِّل وأنا أضع عنك. وفي رواية أخرجها البزار عن عبد الله بن عمر وأخرجها الطبراني بنحوها: إنما الذي فيه نهي أن يقول المدين أعجل لك كذا وأضع عنه البقية.

وليس قول ابن عمر وغيره بأولى من قول ابن عباس، لا سيما أن لقوله سندًا من الحديث وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ضعوا وتعجلوا" (سبق تخريجه).

وأما قول أبي حنيفة فيقع في إطار اشتراط منفعة محددة في المعقود عليه لمصلحة العاقد. وهذا النوع من الشروط مما أبطله الحنفية والشافعية في المعتمد من مذهبهم، والظاهرية بعدم جواز، وقال المالكية والحنابلة في الراجح من مذهبهم والزيدية والإباضية والإمامية بجوازه.

وقد استدل القائلون بعدم الجواز بحديث نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن بيع وشرط وهو حديث ضعيف أنكره أحمد، وقال: لا نعرفه مرويًّا في مسنده. وقال النووي عنه: أما الحديث فغريب، وضعَّفه ابن تيمية، وقال ابن حجر: في إسناده مقال، وقال ابن القيم: لا يعلم له إسناد يصح.

وأما القياس على زيادة الدين الحال مقابل زيادة الأجل فمع الفارق؛ وهو أن المقيس عليه منصوص على عدم جوازه، فهو بيع الدَّين بالدَّين، وقد "نهى -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الكالي بالكالي" (سبق تخريجه). ومن جهة أخرى فإن إنقاص الثمن مقابل تقصير المدة غرضه التيسير على المدين، وتسهيل الدفع، وقضاء الدين عليه، أما الزيادة مقابل زيادة الأجل فغرضها التضييق على المدين، ومن ثم فلا وجه للقياس.

إن القول بإنقاص الثمن إذا أدى المدين الثمن المؤجل معجلاً بمقدار ما يعادل الأجل يرتكز على مبدأ سبق بيانه، وهو أن الأساس هو السلعة لا النقد المجرد. لأن السلعة هي التي يتغير سعرها تبعًا للظروف والأحوال والرغبة فيها. أما النقد فهو مقوم السلع، وهو ثابت لا يتغير لأنها ليست سلعًا ترتفع وتنخفض.

إن العقود في الشريعة الإسلامية يُنظر إليها دون موازنة ببعضها. فالعقد مع تأجيل الثمن عقد قائم بذاته يُنظر إليه من حيث سلامة العقد وكونه غير شامل للربا بأنواعه من نظر إلى غيره. وهذه النظرة تجعل العقد صحيحًا في ذاته، وكون المبيع معجلاً بعقد آخر بثمن أقل لا يؤثر في العقد الأول لأنهما عقدان متغايران يتميز كل واحد منهما عن صاحبه.

ثانيا: مناقشة أدلة القائلين بالجواز:

لقد تناول القائلون بعدم جواز البيع بثمن مؤجل يفوق الثمن الحال بعد أدلة القائلين بالجواز بالمناقشة، وذلك على خلاف ما قام به الجمهور من تفنيد جميع أدلة المانعين بصورة شاملة وافية، ما يعد مؤشرًا على قوة حجتهم.

فقد ناقش المانعون قول الجمهور في استدلالهم بالآية الكريمة "وأحل الله البيع وحرم الربا"، وعلى حل البيع عملاً بعموم النص، حيث لم يرد صحيح يخصصه بقولهم.

إن الآية تفيد تحريم البيع بزيادة الثمن مقابل الأجل لأنه داخل في عموم كلمة الربا التي تعني الزيادة، كما أنها تفيد الإباحة في قوله سبحانه: "إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم"، فإن العقود الربوية مقيدة لهذه الإباحة. وإذا قيل بأن البيوع بأثمان مؤجلة داخلة في معنى "وأحل الله البيع وحرم الربا"؛ إذ هي بيع يُقال إنها تحتمل أن تكون داخلة في عموم البيع أو الربا. وعند الاحتمال من غير ترجيح يقدم احتمال الحظر على احتمال الإباحة، خاصة أن إحلال البيع ليس على عمومه، بل خرجت منه البيوع وهذا منها.

ومن جهة أخرى، فإن قوله تعالى: "وحرم الربا" قولٌ عام يشمل كل الربا، وليس مجملاً، بدليل أن الله -عز وجل- وضحه بأنه كل زيادة على رأس المال مقابل الأجل، حيث قال تعالى: "فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم". وقد اجمع العلماء على تفسير الربا في هذه الآية بأنه الربا الذي كان معروفا في الجاهلية، وهو ما كان يحصل عليه الدائن من زيادة رأس ماله عندما يعجز بدينه عند حلول الأجل فيقول له إما أن تقضي ديني وإما أن تُربي أي تزيدني في الدَّين نظير الأجل فدل على أن كل زيادة في مقابل الأجل ربا والأجل لا يعد مالا لدعم إمكان حيازته والاستئثار به وادخاره لوقت الحاجة فلم يكن جائزًا أن يأخذ مالاً عوضًا عنه، ومن ثم كانت زيادة ثمن السلعة المؤجل عن الثمن الحال زيادة خالية عن العوض وهذا هو الربا.

أما استدلال الجمهور بحديث ضعفوه وتعجلوا فالجواب عنه:

إن في إسناده مسلم بن خالد وهو سيئ الحفظ ضعيف، وهو كما قال الدارقطني ثقة إلا أنه سيئ الحفظ، وقد اضطرب في هذا الحديث.

ومن جهة أخرى فإن الزمن في الحديث كان للحط من الدين لا للزيادة بخلاف البيع المؤجل فإنه للزيادة في الثمن لا للنقص منه، وفرق ما بين الزيادة والنقص كفرق من يداين ويزيد الأجل لأجل الزمن ومن يعفو عن بعض الدين ليسهل على المدين الدفع، ولذلك لا يصلح الحديث دليلا في الموضوع.

ويُضاف إلى ذلك أن القول بجواز إنقاص الثمن مقابل تعجيل دفع الثمن المؤجل لم يرد إلا في الدر المختار حيث نسبه ابن عابدين لبعض المتأخرين، وقال بأن أبا السعود ارتضاه ولعل أبا السعود العمادي ارتضاه لأنه كان يسهل على سليمان القانوني ما يريد من إدخال الأفكار الأوروبية في بلاده، ولذلك لم يعتبر العلماء الأتراك فتاويه، بل قد نص بعضهم كأبي بكر الرازي على أن ذلك من الربا الذي نص عليه تحريمه.

وأخيرًا قالوا: إن من يقول بجواز السلف إذا قال: عجلْ لي وأضع عنك من الجائز أنهم أجازوه إذا لم يجعل ذلك شرطًا في العقد، وذلك بأن يقوم البائع بحط بعض الثمن عن المشتري بغير شرط فيقوم المشتري بتعجيل الدين المتبقي بغير شرط.

أما عن استدلال الجمهور بأن المشتري قد رضي بالزيادة مقابل الأجل، والرضا هو شرط صحة التجارة، وإذا كان العقد صحيحا أجابوا بأن رضا المشتري بزيادة السعر المؤجل عن السعر الحال لا عبرة به إذا اعتبرنا هذه الزيادة ربا؛ لأن تراضي البائع والمشتري على الربا لا يجعله حلالا.

أما عن القول بأن الأسعار تتفاوت ارتفاعًا وانخفاضًا لأن السلعة لها سعر نقدي بخلاف النقود فالجواب عنه: أنه إذا كان للبائع أن يبيع ابتداء بثمن مؤجل أكثر من سعر السوق فذلك يختلف عن تخيير المشتري بين الشراء بثمن حال أو ثمن مؤجل أكثر من ذلك الثمن الحال؛ فالبيع الأول يمكن أن يقال فيه بأن الأسعار تتفاوت كما أن للمشتري مطلق الحرية في قبوله، وإن كانت الشريعة الإسلامية تنهى عن الربح غير المعقول في التجارة.

أما البيع الثاني وهو موضوع البحث فإنه يتميز بأن للسلعة ثمن حال معروف، وزاد هذا الثمن بسبب التأجيل، وهنا لا يمكن القول بأن الأسعار تتفاوت وتزيد وتنخفض؛ لأن السلعة يحدد لها سعر نقدي معين، ولم يقصد البائع إلى زيادة الثمن المؤجل إلا بسبب الأجل.

وأخيرًا يقترح عبد الناصر العطار وهو من القائلين بأن الثمن المؤجل عن السعر الحال أمر لا يتفق مع قواعد الشرع، ويعتبره ربا أو شبهة ربا - علاجا بديلا لبيع التقسيط يتمثل فيما عرفته بعض النظم الاقتصادية من وسائل مشروعة يتم فيها تأجيل ثمن المبيع دون زيادة كنظام الاستثمارات الحكومية في بعض المؤسسات التي يتم بمقتضاها شراء بعض السلع بسعرها اليومي وتأجيل ثمنها مع دفعه أقساطا تخصم من الراتب، وفي إمكان غير الموظفين تطبيق هذا النظام عن طريق النقابات والجمعيات التعاونية. ولا شك في أن هذا النظام لا غبار عليه في الإسلام كما أن بعض التجار يعلن عن بيع سلعه بالتقسيط وبدون فوائد أي بذات السعر الفوري.

ثالثًا: مناقشة الرأي الثالث (الوسَطِيّ):

لقد رأينا أن خلاصة هذا الرأي تتمثل في القول بأن البيع بالتقسيط ليس مباحًا على الإطلاق ولا محرمًا على الإطلاق، وذلك اتقاء للشبهات واستبراء للدين والعرض.

والجواب على ذلك أن صاحب هذا الرأي قد قال صراحة ومع ذلك فأنا أعتقد أن البيع بالنسيئة بزيادة الثمن لقاء التأجيل إنما هو مشروع وفي هذا تناقض مع القول بأنه ليس مباحا ولا حراما فأبسط درجات المشروعية هي الإباحة.

إن الشبهة هي ما اجتمع فيها جانب يؤيد الحِل وآخر يؤيد الحرمة. ولقد ورد في حديث صاحب هذا الرأي ما يقطع بمشروعية البيع بالتأجيل مع زيادة الثمن، وصال وجال في بيان فروق أساسية بينه وبين الربا المحرم فأي وجه للاشتباه بعدئذ؟

وهكذا كانت هذه الشبهة والحرص على الاستبراء للدين تغيب عمن كانوا يدعون سبعين بابا من الحلال مخافة أن يقعوا في باب الحرام، ومع ذلك لم نجد في عباراتهم أدنى تحفظ عند صدور عباراتهم بجواز هذا البيع مراعيا للشروط الشرعية.

أما دعوة صاحب هذا الرأي من يتعاملون ببيع التقسيط الى الاقتراض السن تقليلا لتداول هذا البيع واتهامه لهم بالهجوم على هذا النوع من البيع مع عدم مسيس حاجتهم إليه دون محاولة الحصول على القرض الحسن، فأظنه كلاما مبالغا فيه، وهل أبواب القروض الحسنة مشرعة لمن يلجها؟ ونحن في عصر أصبح الفرد فيه يضن بالدرهم والدينار على أمه وأبيه وصديقه وأخيه ثم إذا توفر هذا القرض الحسن ليغطي شراء سلعة يسيرة الثمن فأنى له أن يتوفر لشراء عربة يكتسب منها صاحبها قوته وقوت من يعول؟ أو شراء شقة يسكنها؟ فما ارتآه من تبني هذه الفكرة ليس إلا حلمًا جميلاً صدر عن حسن ظن ونية إن شاء الله.

وعليه ففي ظني أن هذا الرأي يعوزه الدليل المقنع، ويفتقر إلى الموضوعية، وينقصه عامل الانسجام بين ما طرحه صاحبه من أفكار، وبالتالي لا يقوى على النهوض مذهبا ثالثا إلى جانب المذهبين الرئيسيين المتقدمين من الناحية الحقيقة اللهم إلا من باب عرضه باعتباره وجهة نظر تمثل رأي صاحبها فحسب فاقتضى التنويه إلى ذلك.

رابعًا: الترجيح بين الآراء الثلاثة:

بعد أن عرضنا لأقوال من أجاز بيع التقسيط من الفقهاء ومن قالوا بعدم جوازه، ووقفنا على المناقشات والردود التي وجهها جمهور الفقهاء إلى كافة أدلة القائلين بمنع البيع بثمن مؤجل مع الزيادة على الثمن الحال، ورأينا أنه لم يسلم دليل منها من الطعن الذي يضعف من حجيته وصلاحيته للاستدلال به. وفي حين أن أدلة الجمهور قد سلمت لهم في غالبيتها وما وجه إلى بعضها من نقاش لا يقلل من أهميتها، ولا يلغي فاعليتها فقولهم مثلاً بأن آية "وأحل الله البيع وحرم الربا" تتضمن النهي عن كل زيادة وتعتبرها ربا ففيها إباحة وتحريم البيع، وعند اجتماع الحظر والإباحة يقدم الحظر فهذا القول يصدق لو لم يوجد ما يرجح كفة الحكم بالإباحة وقد اتضح ذلك الرجحان من خلال الفروق العامة التي تقدمت بين البيع والربا.

ونقول للمعارضين كما قال الشيخ أبو زهرة مقالة الله لمن اعترض مثل اعتراضهم إذا قالوا بأن البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا، وأما الأحاديث والآثار في جواز إنقاص الثمن مقابل تعجيل الوفاء بالدين فعلى ما فيها من مقال في سندها إلا أن مفهومها وما يسندها من أدلة تقدمت في موضعها يجعل من معانيها ودلالتها أمرًا مستساغا شرعا.

مما يجعلنا نخلص إلى القول بأن صحة بيع التقسيط، وجواز التعامل به هي الأولى بالأخذ بها والمصير إليها، والله تعالى أعلم.

فتاوى العلماء القائلين بجواز البيع بالتقسيط

بعد أن وصلنا إلى نتيجة مفادها أن القول بجواز بيع التقسيط هو الأولى بالأخذ به نظرًا لقوة أدلته، ولأنه يتفق مع روح الشريعة في تحقيق مصلحة المتعاقدين وتيسير معاملات الناس وحل ومشكلاتهم.

وزيادة في التأكيد والتماسًا لترسيخ هذه الحقيقة نسوق طائفة من فتاوى علماء المسلمين القدامى والمعاصرين التي جاءت مصرحة بجواز البيع بالتقسيط.

1 - فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية:

سُئل عن رجل عنده فرس شراه بمائة وثمانين درهمًا، فطلبه منه إنسان بثلاثمائة درهم إلى مدة ثلاثة شهور، فهل يحل ذلك؟

فأجاب: الحمد لله، إن كان الذي يشتريه لينتفع به، أو يتجر به، فلا بأس ببيعه إلى أجل، لكن المحتاج لا يربح عليه الربح المعتاد، لا يزيد عليه لأجل الضرورة. وأما إذا كان محتاجًا إلى درهم، فاشتراه ليبيعه في الحال، ويأخذ ثمنه، فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء.

2- فتوى في كتاب "جواهر الفتاوى":

السؤال: هل يجوز لأصحاب الأموال بيعها حالاً بثمن، ومؤجلاً بأجل معلوم بثمن أعلى منه؟ أو لا يجوز -كما يقول البعض- بحجة أن كل قرض جرَّ نفعًا فهو ربا، ولما في المنهاج من نهي عن بيعتين في بيعة، كأن يقول البائع بعتك نقدًا بكذا أو مؤجلاً بكذا فخذ بأيهما شئت؟ أجيبونا مأجورين:

الجواب: إن كل الكتب المعتمدة متفقة على جواز البيع المذكور بالوجهين، وأن المال الذي قيمته مائة فلس ندًا يجوز بيعه مؤجلاً إلى شهر بمائة وعشرة أفلس. ولا ربا في ذلك، فإنما هو -الربا- بيع النقود بالنقود، والطعوم بالطعوم إذا اتفق النوعان. ففي التحفة دلالة واضحة على أن الأجل يقابله قسط من الثمن وعبارتها في البيع بشرط الأجل وشرطه أن يُحدد بمعلوم. وألا يبتعد بقاء الدين إليه، وإلا بطل البيع للعلم حال البيع بسقوط بعضه وهو يؤدي إلى الجهالة المستلزم للجهل بالثمن لأن الأجل يقابله قسط منه. وأن استدلال المانع للبيع المذكور بالأجل "كل قرض جر نفعًا فهو حرام" بالأصل المقرر، لا تقريب له؛ لأن ذلك إنما هو في القرض وهو عقد مستل يغر البيع، وعبارة عن إعطاء شيء شخصًا على اعتبار المار. فإنه لا يجوز للمقرض أخذ عشرة دراهم وفلس واحد، ولا قفيز حنطة ومد بدل ما أقرضه لكون ذلك ربا، وكلامنا في البيع بغير الجنس نقدًا أو عرضًا حالاً أو مؤجلاً وأين هذا من ذلك؟

وأما ما جاء في المنهاج من النهي عن بيعتين في بيعة، فمنشؤه اشتمال الصيغة على كلمة أو للترديد والتشقيق المستلزمة للجهالة والإبهام، وإلا فلو أن البائع بصفقتين باع كيلو من السكر بدرهم حالاً، وكيلو آخر بستين فلسًا إلى شهر وقبل المشتري صح ذلك بلا شبهة.

3- فتوى الشيخ محمد رشيد رضا:

حول شراء السلعة بأكثر من ثمن المثل إلى أجل فيجيب: إن هذا الشراء جائز، وليس من الربا المحرم، والله أعلم.

4- فتوى الشيخ عبد الوهاب خلاف وفيها:

سألني تاجر هل يحل شرعًا بيع الشيء بسعر أعلى لمن يدفع الثمن مؤجلاً؟ فأجبته: نعم، يحل هذا شرعًا، وليس فيه شيء من الربا المحرم، فيحل شرعًا بين الإردب من القمح بأربعة جنيهات لمن يدفع الثمن حالاً، وبيعه بخمسة جنيهات لمن يدفع الثمن مؤجلاً.

5- فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز:

يقول.. فقد سئلت عن حكم بيع كيس السرك ونحوه إلى أجل بثمن أكبر من الثمن النقدي: والجواب عن ذلك أن هذه المعاملة لا بأس بها، لأن البيع النقد غير بيع التأجيل، ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة، فكان كالإجماع منهم على جوازها.

6. فتوى الشيخ بدر متولي عبد الباسط:

سئل عن جواز قيام بيت التمويل الكويتي بشراء السلع والبضائع وبيعها لهم بالأجل وبأسعار أعلى من أسعارها النقدية... فأجاب بقوله:

إن ما صدر عن طالب الشراء يعتبر وعدًا، ونظرًا لأن الأئمة قد اختلفوا هل الوعد ملزم -يعني قضاء- أو لا؟ فإني أميل إلى الأخذ برأي ابن شبرمة -رضي الله عنه- الذي يقول إن كل وعد بالتزام لا يحل حراما ولا يحرم حلالاً، يكون وعدًا ملزما قضاء وديانة، وهذا ما تشهد له الظواهر القرآنية والأحاديث النبوية. والأخذ بهذا المذهب أيسر على الناس، والعمل به يضبط المعاملات. لهذا ليس هناك من تنفيذ هذا الشرط مانع.

7 - فتوى "مؤتمر المصرف الإسلامي الأول بدبي" الذي اجتمع فيه 59 عالما من شتى أنحاء العالم الإسلامي، وقد عرضت على المؤتمر الصورة التالية:

يتطلب المتعامل من المصرف شراء سلعة معينة يحدد جميع أوصافها، ويحدد مع المصرف الثمن الذي سيشتريها به المصرف، وكذلك الثمن الذي سيشتريها به المتعامل من البنك بعد إضافة الربح الذي يتفق عليه بينهما.

فجاءت توصية المؤتمر: يرى المؤتمر أن هذا التعامل يضمن وعدا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها، ووعدا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقا لذات الشروط.

إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقا لأحكام المذهب المالكي، وملزم للطرفين ديانة طبقا لأحكام المذاهب الأخرى. وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه.

8. فتوى د. أحمد الشرباصي:

السؤال: هل يعتبر البيع بالتقسيط حراما، إذا كان مجموع الثمن المقسط يزيد عن ثمن السلعة إذا بيعت فورًا؟

الجواب: البيع يكون إما بثمن معجل، وأما بثمن مؤجل إلى أجل معين، وقد نص الفقهاء على جواز النوعين، ومن الواضح أن البيع بالتقسيط من قبيل البيع بثمن مؤجل، وبهذا يعلم أنه يجوز شرعا بيع السلعة بثمن مؤجل زائد عن ثمنها الحالي إذا كان الأجل معلوما. فإذا كان الإنسان مثلاً يشتري جوال السماد بمائتين وخمسين قرشا بثمن مؤجل يدفعه بعد 4 أشهر من تاريخ الشراء يكون هذا البيع صحيحا ولا شك فيه.

9. فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: السعودية:

السؤال: أراد رجل الزواج مثلا، وليس عنده ما يكفي من مبلغ الصداق، فذهب إلى صاحب دكان فقال له أبيعك سيارة بسبعة آلاف ريال سعودي دينا، تدفعها كاملة عند نهاية السنة فهل هذا ربا، مع العلم أن قيمة السيارة نقدًا عشرة آلاف وخمسمائة ريال سعودي فقط، وهذه السيارة هي التي اشترط عليها وهي محور الاشتراط بين البائع ومن يريد الزواج؟

الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من شراء شخص من آخر سيارة لأجل بثمن أكثر مما تباع به نقدًا عاجلا ليبيعها المشتري إلى من شاء سوى من باعها عليه ومن في الحكمة فليس ربا بل هو عقد بين صحيح وجائز.

10. فتوى صادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء ردا على السؤال التالي:

لدى السائل من يبيع السيارات بأقساط وعلى المبلغ المؤجل فوائد محددة، ولكنها تزيد بتأخير دفع القسط عن موعد تسديده.. فهل هذا التعامل جائز أم لا؟

وأجابت بما يلي: إذا كان من يبيع السيارة ونحوها إلى أجل يبيعها بثمن معلوم إلى أجل أو آجال معلومة زمنا وقسطا لا يزيد المؤجل من ثمنها حدا يتجاوزه فلا شيء، وإن كان المؤجل كما هو المفهوم من السؤال بتأخر دفعه القسط عن موعده المحدد بنسبة معينة فذلك لا يجوز بإجماع المسلمين لأنه ينطبق عليها ربا الجاهلية .

11. فتوى الهيئة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - بالكويت:

السؤال: ما هو رأي الشرع في البيع بالأجل، هل يسمح الشرع بأن يكون هناك سعر للسلعة في حالة بيعها بالنقد، وسعر آخر لنفس السلعة في حالة بيعها بالأقساط؟

الجواب: أنه لا مانع من أن يكون سعر البيع بالتقسيط أعلى من سعر البيع بالنقد الفوري، وللبائع أن يحسب الأرباح التي يريدها بأي أسلوب حسابي...

12. فتوى الدكتور عبد الحليم محمود وقد جاء فيها:

لقد أباح جمهور الفقهاء أن يكون الثمن المؤجل أعلى من الثمن المدفوع فورا، وذلك لأن الثمن المدفوع فورا يمكن الانتفاع به في معاملات تجارية أخرى. أما الثمن المؤجل فإنه لا يتأتى فيه ذلك. وهذا النوع من المعاملات ليس داخلا في نطاق الربا...

13. فتوى مجلة منار الإسلام:

أجاب الشيخ موسى صالح شرف عن سؤال ورد إلى زاوية منكم وإليكم بالمجلة توقيع -مسلم المغرب- يقول فيه: أعمل بإحدى الشركات، وتقوم بتوزيع المنازل على من يرغب في شرائها بطريقتين: الأولى أن يدفع الثمن فورا، والثاني على أقساط تخصم من الراتب، والثمن بهذه الطريقة يفوق الثمن المؤدى فورا.. فهل الزيادة مشروعة أم لا؟

الجواب: يجوز للمسلم أن يشتري ويدفع الثمن فورا، كما يجوز أن يؤخر دفع الثمن كله أو جزءا منه إلى أجل بالتراضي مع الشركة أو صاحب الشيء المباع. وللبائع أن يزيد في الثمن الحالي. بشرط ألا يستغل المشتري أو يظلمه، والأصل في ذلك الإباحة. لم يرد نص في تحريمه على أن يحدد المشتري إن كان يريد نقدًا أو بالتقسيط منذ البداية وألا تكون الشركة تحسب الأقساط على أساس الربا. وأن يكون الثمن قابلا للزيادة فيما لو عجز المشتري عن دفع الأقساط في حينه.

مزايا البيع بالتقسيط وسلبياته

بعد أن استعرضنا أدلة الفقهاء القائلين بجواز البيع التقسيط، والقائلين بعدم جوازه وترجح لدينا القول بجوازه هو القول الأقوى دليلا، والأولى بالترجيح، والأجدر بالعمل به -بعد هذا- أرى إتماما للفائدة أن نذكر فوائد هذه المعاملة وإيجابياتها، ومضارها وسلبياتها، فذلك يزيد إلى قناعتنا دليلا، وإلى يقيننا يقينا بصحة القول المختار.

أولا: مزايا بيع التقسيط:

1. تقديم الشركات والمؤسسات التجارية والمحلات التجارية التسهيلات لذوي الدخل المحدود ممن لا تسمح لهم حالاتهم المادية بدفع أثمان السلع التي يحتاجونها بثمن حال، وهذا من شأنه أن يرغبهم في الإقبال على التعامل معها، كما يعمل على ترويج السلع والبضائع كيلا تبقى مكدسة في المخازن.

2. التغلب على المشكلة التي تواجه كثيرا من الناس -لا سيما الفئات ذات المرتبات المتدنية- والمتمثلة في القدرة على التوفير والادخار؛ لأن ضيق ذات اليد وكثرة المطالب من جهة، وعدم توافر الإرادة التي لا غنى للإنسان عنها للادخار فقد تحول دون هذه الغاية.

3. إرضاء رغبة لدى الإنسان في الحصول على الشيء الذي يريده دون انتظار، فالتعامل بالتقسيط يشجع المشتري على الإقدام على الشراء.

أما عيوب البيع بالتقسيط فأبرزها:

1. ما يقع من مشكلات بين البائع والمشتري تنشأ في حالة عجز المشتري عن سداد الأقساط كليا أو جزئيا، وذلك بسبب تعذر استرداد البائع للسلعة، أو حصوله على حقه فالبائع يحول معظم أمواله إلى ديون على الغير لا تتوفر فيها ضمانة جدية فإذا عجز معظم المشترين عن الوفاء بسبب أزمة اقتصادية ضيع أمواله إلى ديون على الغير لا تتوافر فيها ضمانة جدية، فإذا عجز معظم المشترين عن الوفاء بسبب أزمة اقتصادية ضيع أمواله وعجز عن الوفاء لدائنه، وانعكس ذلك على الوضع الاقتصادي برمته.

ويجاب عن هذه السلبية: بأن الأحكام التي شرعت بقصد ضبط علاقة البائع بالمشتري في حالة البيع بالأجل، والتي تبين بدورها كل منهما والتزاماته إزاء الآخر من شأنها أن تتغلب على هذه المشكلات. على أن هذه المشكلات ليست قاصرة على البيع بالتقسيط بل قد توجد في البيع المطلق والإجارة وغيرها من العقود.

2. أن سهولة الحصول على السلعة والدفع قد تغري المشتري بالشراء لا سيما لسلع قد لا تكون ضرورية؛ مما يثقل كاهله بالدين، ويربك ميزانية أصحاب الدخول المحدودة إذا تنوعت الأقساط التي يلتزمون بها، ويكرس روح الاستهلاك في المجتمع، وهذا يتنافى مع توجيهات الإسلام إلى عدم التوسع في الاستهلاك والمبالغة في الإنفاق لا سيما في الأمور التحسينية.

ويجاب على ذلك بأن المسلم في تصرفاته عموما ومعاملاته المالية على وجه الخصوص لا يطلق لنفسه العنان كي يسترسل على هواها، بل هو محكوم فيما يأتي ويدع بتوجيهات الشرع وأحكامه التي تدعوه إلى أن يكون معتدلا في إنفاقه حتى في حالة اليسار: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا" (الفرقان: 67)، فأنى للمسلم، وهو الذي يتمتع بالأفق الواسع، والعقل الراجح، فلا تستخفه شهوة، ولا يمد عينيه إلى متاع الدنيا وزهرتها إلى حدود المباح المعقول أن يغرق نفسه في الديون التي يعلم أنه سيؤديها ولو بعد حين، وأن يقع تحت وهم سهولة الحصول على السلعة عاجلا.

3. أن هذا النوع من البيع يدفع التاجر إلى رفع سعر السلع حتى يواجه احتمال إعسار المشتري وبخاصة في أوقات الانكماش الاقتصادي.

ويجاب عن هذا، بأن التاجر الذي يرتضي لنفسه هذا النوع من التعامل لا بد أن يكون على علم بطبيعته ومقتضاه، ويدرك أن سيقتضي إثمان السلع التي يبيع مؤجلة، ولأجل هذه الاعتبارات رخص له الشرع بأن يزيد من ثمن السلعة عن الثمن المعجل تعويضا له عن حرمانه من استثمار ثمنها بسبب التأجيل، ولكن على أن تكون الزيادة في الحدود المقبولة شرعا وإلا انقلب إلى الربح الفاحش الذي يحرمه الشرع.

علاوة على أن إغلاء السعر لا يختص بالبيع ˆالتقسيط، فقد يربح التاجر ربحًا فاحشا وإن كان يبيع بثمن حال، متى غابت من ضميره رقابة الءه سبحانه وتعالى وفُقدت من قلبه الرحمة بعباده.

4. أن البيع بالتقسيط يتضمن خطرإ بالنسبة للبائع؛ لأن المبيع تنقل ملكيته إلى المشتري ويصبح البائع دائنا بالثمن في حين يكfن للمشتري التصرف في المبىع. ولذلك أجاز القانون المدني للبائع أن يتطلب فسخ البيع، واسترداد المبيع في حالة امتناع المشتري عن الوفاء بباقي الأقساط. ويُقال جوابا عن هذه السلبية: إن الضمانات التي منحها الشرع للبائع في حالة حدوث مثل هذا الخطر المتوقع تكفل التغلب على المشكلة وعلاجها.

5. أنه في حالة إفلاس المشتري لا يحق للبائع وفق القانون التجاري طلب الفسخ والاسترداد لسلعته ويقتصر أمره على أن يكون دائنا عاديا ويدخل بالباقي م¤ الثمن في التفليسة، ويخضع لقسمة الغرماء تحقيقا للمساواة بينهم.

ويجاب على ذلك: بأن ما aلبائع بالتقسيط من مال في ذمة المشتري لا يختلف Zؤ سائر الديون التي يتحملها لغيره من الغرماء، فلا معنى لتمييزه، لا سيما أنه أقدم على هذا الضرب من التعامل بمحض اختياره فهو بالتالي مهيأ لتحمل نتائجه والتعامل معها بصورة إيجابية.

من هنا نرى أن سلبيات البيع بالتقسيط -إن وجد شيء منها- فهي طفيفة ضئيلة إزاء المزايا والإيجابيات التي ذكرناها له، كما أنها في أكثرها مُبالغ فيها؛ مما يعزز ما ذهبنا إليه من القول بمشروعية البيع بالتقسيط، وحل التعامل به إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.

تابع معنا بقية محاور البحث:

أصول الشرع في مسألة البيع بالتقسيط

اجتهادات من الشرع في البيع بالتقسيط

تفاصيل أحكام بيع التقسيط

خلاصة البحث

No comments:

Ramadan

الغزالي