Sunday, August 31, 2008

علاقة "المندوب" بالواجب في الممارسة الاجتماعية

تقاليد نظام الوقف في رمضان

علاقة "المندوب" بالواجب في الممارسة الاجتماعية

د. إبراهيم البيومي غانم

24/10/2005

ابتداءً من العهد الأموي ظهرت علاقة مباشرة بين الوقف وصوم رمضان في الممارسة الاجتماعية؛ إذ أخذ الواقفون يهتمون بتخصيص جزء من ريع وقفياتهم أو للإنفاق من هذا الريع ‏لتمكين غير القادرين على صوم الشهر الكريم، بما في ذلك من توفير لطعام الفطور أو السحور. إلا أن هذا الشكل قد اتخذ مظاهر متعددة في العصور التالية للعصر الأموي.

فما علاقة الوقف - باعتباره واجبًا كفائيًا- بالصوم -باعتباره فرض عين- على مستوى الممارسة الاجتماعية الواقعية للتكاليف الشرعية؟ وكيف نشأت هذه العلاقة في الخبرة الحضارية التاريخية لأمتنا؟ وكيف تطورت؟ وما أهم مظاهرها؟

هذه التساؤلات وغيرها يجب عليها هذا البحث -الذي لم يجف المداد الذي كُتب به بعد؛ إذ إنه مؤلف في الليالي المباركة لشهر رمضان الذي نحياه.

مقدمة

التكييف الشرعي لصوم رمضان وللوقف

نشوء العلاقة بين الوقف والصوم في الممارسة الاجتماعية وتطورها

أنماط التوظيف الاجتماعي للوقف في رمضان

1- نمط التحويلات النقدية

2- نمط المساعدات العينية

3- نمط الدعم العيني للمؤسسات المدنية

التوظيف السلطوي للوقف في رمضان

مقدمة

نأمل أن يكون البحث في علاقة سنة الوقف بفريضة الصوم فاتحة لمزيد من البحوث والدراسات المتعمقة حول علاقة هذه السنة (الوقف) بمجمل فرائض الإسلام - كالصلاة والزكاة والحج- بشكل خاص من ناحية، وحـول علاقة السنن بالفرائض أو المندوبات بالواجبات الشرعية بشكل عام من ناحية أخرى؛ على أن يكون البحث -من الناحيتين- من منظور الممارسة الاجتماعية للتكاليف الشرعية، وأن تكون مادته الأساسية مستمدة من واقع هذه الممارسة ومن مشكلاتها الواقعية، ومن تراكماتها التاريخية.

ذلك لما نلحظه من غياب شبه تام لهذه المنهجية التي تبحث في "العلاقات" المتبادلة بين مكونات التكاليف الشرعية على مستوى الممارسة الاجتماعية -الفردية والجماعية- وتحلل تفاعلاتها ومساراتها وصيروراتها عندما تنتقل من حيز النظرية إلى واقع التطبيق، وتحاول تفسيرها وتعليلها عندما تتميز هذه التكاليف عن عالم الأفكار بتجريداته، وتتلبس بعوالم الأشخاص والأشياء والأحداث بتعقيداتها، وتأخذ حيزاً يحده عنصر الزمان (التاريخ) من جهة، وعنصر المكان (الجغرافيا) من جهة ثانية.

إن من اليسير العثور على عشرات المؤلفات الفقهية والأصولية - بل المئات والآلاف منها - التي تناولت التكاليف الشرعية بالتأصيل والتفصيل بما لا مزيد عليه، ومن اليسير كذلك الحصول على قدر معتبر من مؤلفات العلماء الذين ركزوا فيها جهدهم لبحث العلاقات النظرية المشتركة بين تلك التكاليف، أو الأحكام الشرعية، وبينت كيف أن كل تكليف أو حكم منها يفضي إلى الآخر، ويرتبط به برباط وثيق، وأنها تشكل في مجملها وحدة متكاملة، ونظاماً متناسقاً، وتجمعها نظرية شاملة هي "نظرية المقاصد العامة للشريعة" وهي التي تتجلى فيها "المعاني والحِكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع، أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة" [1].

هنالك كل ذلك، ولكن الأمر اللافت للنظر هو أنه لم تجر محاولات جادة لتوظيف هذا الثراء الفقهي الأصولي كمرجعية نظرية ومعرفية للوصول إلى إجابات على تساؤلات كثيرة لا تزال غير مطروقة حول الدور الذي أدته الممارسات الاجتماعية للتكاليف الشرعية - على اختلاف مستوياتها - في إحداث درجات متفاوتة من التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، بل والتقني والفني، أو "الحضاري" في التاريخ الإسلامي بشكل عام، وحول علاقات التساند والارتباط التي كشفت عنها الممارسات الاجتماعية بين أقسام تلك التكاليف أو الأحكام الشرعية بما تشتمل عليه من واجبات ومندوبات ومحرمات ومكروهات ومباحات، ولماذا ارتبطت معظم الفروض الكفائية - على سبيل المثال - بممارسات اجتماعية ذات طابع "مؤسسي"؛ بكل ما تحمله كلمة مؤسسة من معنى؛ باعتبارها مجموعة من العلاقات والقواعد التي يتم تطبيقها من أجل إشباع الحاجات الاجتماعية، ولضبط مسار التطور الاجتماعي ودفعه للتقدم، بينما نلاحظ أن معظم "الفروض العينية" لم تأخذ مثل هذا النمط المؤسسي في الممارسات الاجتماعية.

ثم ما العلاقة بين "المسئولية الجماعية" التي ولدتها الفروض الكفائية وبين "المسئولية الفردية" التي تضمنتها الفروض العينية، وكيف تجلت هذه العلاقة في الممارسات الاجتماعية؟ وما حصيلتها من منظور الكدح الإنساني والترقى الحضاري؟

هذه التساؤلات وأشباهها نكاد لا نجد إجابات عنها، بل لا نكاد نجد دراسات اجتماعية شرعية أصيلة تبحث في البنى المؤسسية وفي الممارسات الجماعية والفردية من منظور "التكاليف الشرعية"؛ وهي قيد التطبيق، وعبر مراحل متتابعة من التطور الاجتماعي والاقتصادي والتاريخي.

وهذا المقال ليس إلا محاولة ابتدائية في هذا المجال، ومن ثم فالقصور فيه وارد ومتوقع، شأنه شأن أي محاولة ابتدائية، وسنقصره من جانبنا - بعد هذه المقدمة - على نموذج للعلاقة بين صوم رمضان كواجب شرعي، وبين سنة الوقف كمندوب شرعي، ونتأمل في مغزى التوظيف الاجتماعي لهذه السنة في هذا الشهر الكريم، وننظر في بعض الأمثلة والحالات التي دونها سجل الممارسات الاجتماعية الإسلامية في مواضع شتى على طول العالم الإسلامي وعرضه، وقد نسترسل في مزيد من التأمل حول هذه العلاقات وفوائد المحافظة عليها في واقع الحياة الاجتماعية، ونشير إلى سلبيات فصمها ومحاولات تفكيك ما تبقى من روابطها.

التكييف الشرعي لصوم رمضان وللوقف

1- صوم رمضان هو أحد أركان الإسلام الخمسة، وفريضة من فرائضه، وحكمه "الوجوب" حيث اقتضاه الشارع على وجه التحتيم والإلزام قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين مـن قـبلكم لعلكم تتقون" (البقرة : 183) وقال سبحانه: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر" (البقرة : من الآية 185) "والوجوب" في صوم رمضان هو "وجوب عيني"، طلب الشارع أداءه في شهر رمضان من كل فرد من أفراد المكلفين، ولا يجزئ قيام مكلف به عن آخر، شأنه شان الصلاة والزكاة والحج وسائر الواجبات العينية، وكل مكلف خال من الأعذار المانعة يسهل عليه أداء واجب الصوم؛ فما عليه إلا أن يعقد النية ويمتنع عن الأكل والشرب والمعاشرة الزوجية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس طيلة أيام الشهر، وليس ثمة إجراءات أخرى ولا ترتيبات خاصة افترضها الشرع لصحة أداء هذا "الواجب".

وللصوم آدابه، ولشهر رمضان فضائله؛ منها أنه أنزل فيه القرآن هدى للناس، وفيه تضاعف الحسنات، وهو موسم للقرب من الله بفعل الطاعات، وفيه أيضاً واجب أداء زكاة الفطر مرضاة لله تعالى، وطهرة للصائم، ‏ومعونة للمحتاج.

2- أما "الوقف" فحكمه أنه مندوب -عند جمهور الفقهاء- ويعده الأحناف من قبيل المباح، ومعناه في اللغة "الحبس أو المنع"، وفي اصطلاح الفقهاء هو عبارة عن "حبس العين عن أن تكون مملوكة لأحد من الناس، وجعلها على حكم ملك الله تعالى، والتصدق بريعها على جهة من جهات الخير في الحال أو في المآل". وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أول من أنشأ وقفاً في الإسلام، وتبعه الصحابة والتابعون، ثم عامة المسلمين وخاصتهم متأسين به صلى الله عليه وسلم في عمل الخير، وفي الحرص على مصلحة الجماعة، والمشاركة في توفير المنافع العامة.

وبالرغـم من أن التوجيـه الشرعي المتعلق بالوقـف قـد جاء على سبيـل "الندب" وليس على سبيل "الوجوب" أو "الفرض"، وبالرغم من اختلاف المذاهب الفقهية حول أصول الوقف وتفاصيله ما بين مضيق مرغب عنه، وموسع مرغب فيه؛ إلا أن هـذا التوجيه قد وجد قبولاً اجتماعياً واسع النطاق، وانتشر العمل به في مختلف البلدان الإسلامية، وعبر العصور المتلاحقة منذ الصدر الأول للإسلام ولم تزل آثاره باقية حتى الآن، وإن كان الإقبال عليه قد انحسر خلال معظم عقود القرن العشرين.

وإذا نظرنا إلى الأمر "بالوقف" نظر الأصوليين أواجب عيني هو أم كفائي؟ سنجد أنه ليس واجباً عينياً ولا خلاف في ذلك، ولكن يصعب جـداً اعتـباره واجـباً كفائياً، إذ الأمر به لـم يتوجه إلى مجموع المكلفين؛ بحـيث إذا قـام بـه بعضـهم فقـد أدى الواجب وسقط الإثم والحرج (الشرعيين) عن الباقين. ومع هذا فالذي نلاحظه هو أن "الوقف" كان - ولا يزال إلى حد ما - أداة أو وسيلة للوفاء بكثير من "الواجبات الكفائية"؛ وذلك لاتساع ممارسته الفردية ثم الجماعية، ولتشعبه وارتباطه - بمرور الزمن - بشتى مجالات الحياة الاجتماعية، ولدوره في توفير كثير من الخدمات، ودعم كثير من ‏المرافق والمصالح العامة، واعتمادها عليه في الحصول على قسط رئيسي من التمويل اللازم لوجودها واستمرارها، حتى إن فقيهاً كبيراً مثل أبي يعلي الحنبلي اعتبر أن "الرزق" - وقصد به الشيء الذي ‏ينتفع به - "يؤخذ من بيت المال، أو من الأوقاف العـامة المحبسة عـلى مصالح المسلمين وإقامة شعائر الدين " [2].

إن كثيراً من الواجبات الكفائية لم يكن من الممكن الوفاء بها إلا من خلال نظام الوقف، ومن هذه الزاوية صار "الوقف" واجباً كفائياً؛ إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".

3- الحاصل أن الصوم "كواجب" شرعي وفريضة من فرائض الإسلام هو عبارة عن محض عبادة؛ يؤديها المسلم في علاقة خاصة بينه وبين الله تعالى، وامتثالاً لأمره، وثمرته هي التقوى قال ‏تعالى: "لعلكم تتقون".

أما الوقف كمندوب شرعي ففيه يجتمع معنى العبادة الدينية ومعنى المعاملة المدنية، إذ هو في جوهره عـمل مشترك بين "حق الله تعالى، وحق العبد"، وهو في مغزاه دليل على وجود حد أدنى من التّدين لدى الواقف - بشرط سلامة نيته ومشروعية عمله -، وهو في حده الأقصى رمز على تقواه وصلاحه ورغبته ‏في المشاركة بتحمل قسط من المسئولية تجاه المحيطين به، وتجاه مجتمعه بصفة عامة.

ولكن ما علاقة الوقف بالصوم على مستوى الممارسة الاجتماعية؟

وكيف نشأت هذه العلاقة وكيف تطورت وما أهم مظاهرها؟

العلاقة بين الوقف والصوم في الممارسة الاجتماعية

لم تسجل لنا كتب السير ولا التاريخ، ولا التراجم، ما يدل على وجود مثل هذه العلاقة أو الاهتمام بالإنفاق من ريع الأوقاف في شهر الصوم بالذات خلال كل من العهد النبوي، وعهد الخلفاء الراشدين. ونصوص كتب الوقفيات التي يرجع تاريخها إلى هذين العهدين خلت أيضاً من أية شروط صريحة خاصة بصرف شيء من ريع الوقف خـلال شهر رمضان أو بمناسبة صيامه، وإنما جاءت تلك الشروط بنصوص عامة، ومن ذلك على سبيل المثال ما ورد في كتاب عمر بن الخطاب الذي اشترط الإنفاق على الفقراء والمساكين وابن السبيل وفي الرقاب والغزاة في سبيل الله وإكر‏ام الضيف [3] .

ومع التسليم بما سبق فنحن نعتقد بأنه يمكن استنباط علاقة غير مباشرة ربطت بين الوقف وصوم رمضان منذ العهد النبوي، وأن هذه العلاقة قويت بعد ذلك وتشعبت وأضحت مباشرة، وبرهان ذلك في أمرين:

الأول: هو العناية بالمساجد وتعميرها وتهيئتها لأداء الفرائض والنوافل وقد كان النصيب الأكبر في الممارسة - ولا يزال - لشهر رمضان، حيث يكثر رواد المساجد وتشهد أيامه ولياليه حضوراً مكثفاً، وإقبالاً كبيراً على أداء النوافل مثل صلاة التراويح، والاعتكاف في العشر الأواخر، وحضور حلقات العلم والذكر وتلاوة القرآن. ومعروف أن المسجد، بكل مرافقه ومصالحه عبارة عن "وقف" خالص لوجه الله تعالى.

الثاني: هو أنه من المحتمل أن يكون مؤسسوا الوقفيات الأولى في العهدين النبوي والراشدي قد تحروا الإنفاق من ريعها في شهر رمضان على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وغير ذلك من أوجه البر والخيرات، طلباً لمزيد من الأجر والثواب في هذا الشهر الكريم، ورغبة في التوسعة على تلك الفئات فيه، كنوع من الاحتفاء به، والقيام بواجب التضامن والتكافل، وإغنائهم عن المسالة في مثل هذه المناسبات والمواسم.

وبمرور الزمن، ومع اتساع رقعة المدنية الإسلامية، واستقرار قواعدها وازدهار عمرانها، ومع حدوث تمايز نسبي بين مؤسساتها ومرافقها العامة من النواحي الوظيفية والرمزية، أضحت هناك علاقة مباشرة بين الوقف ورمضان، وبالتأمل في وقائع هذه العلاقة يتضح أن الوقف كان - دوماً - في خدمة الشهر الكريم، ورافداً أساسياً من روافـد تمويل معظم مظاهر الاحتفاء به وإقامة شعائره والتمكين من صيامه؛ عبر مختلف العصور.

لقد أخذ المسلمون يحيطون ممارستهم لفريضة صوم رمضان بكثير من مظاهر الإجلال والاحتفاء والتعظيم، وارتبطت بهذه المظاهر سلوكيات خاصة، وحاجات اجتماعية متجددة، واستلزمت - هذه وتلك - وجود أدوات ووسائل ملائمة لتحقيقها، ومن ثم مصادر لتمويلها والإنفاق عليها؛ دورياً في رمضان من كل عام، وباستمرار على مر الزمن. ومن هنا جاء التوظيف الاجتماعي للوقف ليكون - كما قلنا - في خـدمة صوم شهر رمضان ‏وما يحف به من مظاهر التكريم، وكذلك للإسهام في التمكين - كما سنرى - من أدائه، وهو إحدى فرائض الإسلام وركن من أركانه.

ومن المهم قبل التطرق لبعض أنماط التوظيف الاجتماعي لسنة الوقف في خدمة فريضة الصوم، أن نشير إلى أن كافة المواسم والأعياد ذات الطابع العبادي أو الديني، وكذلك المناسبات والاحتفالات الاجتماعية، قـد حظيت باهتمام الواقفين، مثلما حظى شهر رمضان، ومن ذلك عيد الفطر، وعيد الأضحى ومواسم عاشوراء، والنصف من شعبان، وليلة الإسراء والمعراج والاحتفالات الخاصة بمناسبات الزواج وختان الصغار، وموالد الأولياء والصالحين.

ومن المهم كذلك أن نلفت النظر إلى أن التوظيف الاجتماعي للوقف في خدمة إحياء تلك المواسم والأعياد والمناسبات قـد تبلورت له وظيفة رمزية وثقافية على درجة كبيرة من الأهمية، وهو ما سنلحظه في الحالة الخاصة برمضان، من حيث إسهام الوقف في دعـم كثير من القيم المعنوية، والارتقاء بالمشاعر الوجدانية، والحث على الإبـداع والابتكار، وتقـوية التكافلات الأفقية (الاجتماعية) والرأسية (الثقافية) بين أعضـاء المجتمع.

أنماط التوظيف الاجتماعي للوقف في رمضان

تكشف لنا وثائق الأوقاف - التي سجلت وقائع الممارسة الاجتماعية لنظام الوقف على مر التاريخ - عن أن "شهر رمضان" قد حظي باهتمام كثير من الواقفين على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية، وتباين أوضاعهم الاقتصادية، كما تكشف تلك الوثائق أيضاً عن أن المبعث الرئيسي لاهتمامهم بهذا الشهر هو كونه شهر أداء فريضة الصوم، فضلاً عن أنه موسم حافل بكثير من المناسبات ففيه أنـزل القرآن، وفيه ليلة القدر، وفيه الحسنة بعشر أمثالها، والله يضاعف لمن يشاء. وبالرغم من تعدد صيغ تخصيص ريع الوقف وتنوع مجالات إنفاقه في رمضان إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن تخصيص شيء من الريع لإنفاقه في هذا الشهر لم يكن مقتصراً فقط على ما له صلة بالصيام؛ كتوفير فطور الصائمين أو سحورهم، وإنما اشتمل على أغراض أخرى هي من أبواب البر والمنافع العامة التي يستحب الإنفاق عليها في المواسم والأعياد بصفة خاصة، وفي الأحوال العادية بصفة عامة، ولكن العناية بها في رمضان بالذات لها مغزاها المرتبط بأفضليته التي سبقت الإشارة إليها.

وعلى أية حال فإنه يمكن تصنيف صيغ التوظيف الاجتماعي للوقف في رمضان في ثلاثة أنماط رئيسية هي كالآتي:

1- نمط التحويلات النقدية:

وهو أن ينص الواقف على تخصيص مبالغ نقدية من ريع وقفه لإنفاقها خلال شهر رمضان المبارك؛ على الفقراء والمساكين وذوي الخصاصة، ومثال ذلك ما نص عليه محمد باشا سليمان أبو النجا في حجة وقفيته - بمصر - التي يرجع تاريخها إلى سنة 1369 هـ / 1950م ‏- وهو أن يصرف للفقراء والمساكين من ريع الوقـف 7 جنيهات (يومياً)‏ على مدار أيام شهر رمضان و 90 جنيهاً في آخر يـوم من رمضان سنوياً [4] .

والتخصيص الوارد في هذا المثال - وأمثلته كثيرة - هو عبارة عن عطاء نقدي لتلك الفئات بلا مقابل، ودون تكليفهم بأداء أية خدمة، وهدفه هو إعانتهم ليتمكنوا بأنفسهم من تدبير بعض ضرورياتهم خلال الشهر الكريم.

وهناك نوع آخر من التخصيص النقدي الذي اشترط بعض الواقفين إنفاقه في رمضان، ولكن مقابل قيام المستحقين بأداء خدمة ذات طابع رمزي، أو شعائري أو ثقافي، والأمثلة على ذلك كثيرة: منها ما ورد في حجة وقف السلطان سليمان بن سليم الأول العثماني على التكية السليمانية - بدمشق- وعلى المسجد الملحق بها، وهو أن "يُُِرتب إمامان من أهل الصلاح… يحضر واحد منهما بنوبة كل وقت من الصلوات الخمس المكتوبة والتراويح المسنونة المندوبة، ويُدفع إلى كل واحد منهما كل يوم سبعة دراهم" [5] .

ومنها ما ورد - أيضاً - في حجة الحاجة نازنده بنت مصطفى أغا، زوجة والي بغداد في سنة 1814م التي نصت على أن يرتب في المسجد الذي أنشأته "واعظ شهر رمضان ويعطي خمسمائة قرش، وممجد ليالي رمضان ويعطى مائة قرش، وقراء القرآن في شهر رمضان ويعطون ألف قرش [6] .

ومنها كذلك ما ورد في حجة وقف شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام - وهي تعد من أقدم وأهم المكتبات بالجزيرة العربية بوجه عام، وفي المملكة العربية السعودية بوجه خاص، ويرجع تاريخ إنشائها إلى عام 1270 هـ ( 1852م ) وقد شرط لثلاثة من حفظة الكتب (أمناء المكتبة) "أن يعطى كل واحد منهم عند دخول شهر رمضان شهر الغفران اثنا عشر ريال فرانسويه عيناً أجرة القدم " [7].

ومن ملاحظاتنا على "التحويلات النقدية" كصيغة للتعبير عن اهتمام الواقفين برمضان أن هذا النمط لم يكن شائعاً، ويبدو أن الواقفين كانوا يفضلون تخصيص عطاءات عينية - وليست نقدية - أو تقديم خدمات مجانية في مجالات التعليم والصحة والسكن .. الخ من خلال بعض المؤسسات المختصة بتقديم تلك الخدمات، أو بتوفير منافع عمومية أو رعاية اجتماعية خاصة لبعض الفئات.

2- نمط المساعدات العينية:

وهو أن ينص الواقف على الصرف من ريع وقفه لشراء بعض السلع والحاجات - كالأطعمة والأشربة والملابس - وتوزيعها خلال شهر رمضان على فئات متنوعة من عامة الناس، مع إعطاء أولوية الاستحقاق لكبار السن والعاجزين عن الكسب والضعفاء والأيتام ومقيمي الشعائر في المساجد والتكايا والرباطات، والمشايخ الملازمين للمساجد، وللمساكين، وحتى للسجناء.

وبالتأمل في تفاصيل ما نص عليه بعض الواقفين من شروط خاصة بالإنفاق في رمضان يتبين لنا مدى الحرص على تقديم مساعدات جيدة كماً ونوعاً، لتلك الفئات في هذه المناسبة، وقد تفاوتت إسهامات الواقفين في هذا المجال، كل حسب مقدرته الاقتصادية، ومكانته الاجتماعية ورغبته في فعل الخيرات، والأمثلة على ذلك كثيرة من الوقفيات القديمة ومن الأحدث نسبياً، وفيما يلي بعض نماذج منها تبين أصناف المساعدات من الأطعمة والأغذية المختلفة:

أ- من أوقاف مصر في العصر المملوكي، ما ورد في حجة وقف السلطان حسن، وهو أن "يصرف في كل يوم من أيام شهر رمضان ثمن عشرة قناطير من لحم الضأن، وثمن أربعين قنطاراً من خبز القرصة، وثمن حب الرمان، وأرز وعسل، وحبوب وإبزار، وتوابل، وأجرة من يتولى طبخ ذلك وتفرقته، وثمن غير ذلك مما يحتاج إليه من الآلات التي يطبخ بها، فيطبخ ذلك في كل يوم من أيام الشهر المذكور زيادة على ما هو مرتب في ليالي الجمع [8] .

ومن هذا النص يتضح مدى الاهتمام الكبير الذي أولاه "السلطان" لشهر رمضان، وحرصه على التوسعة على الناس فيه، كما يتضح مدى إدراكه العميق لاستغلال هذه المناسبة للوصول إلى قلوب رعيته، ومشاركتهم في الاحتفاء بها، والأهم من هذا وذاك - في نظرنا - هو حرصه على التماس رضا الله تعالى عليه ونوال مثوبته ومغفرته في هذا الشهر الكريم على الدوام والاستمرار في حياته ومن بعد مماته، الأمر الذي جعله يختار صيغة الوقف أو "الصدقة الجارية" ويربطها بفريضة الصوم.

ب- من أوقاف دمشق في مطالع العصر العثماني ما ورد في حجة وقف السلطان سليمان بن سليم الأول العثماني، على تكيته بمدينة دمشق وهو يشبه ما ورد في حجة السلطان حسن السابق ذكرها؛ من حيث مضمونه ودلالته.

فقد شرط السلطان سليم "أن يطبخ في ليالي رمضان المبارك الشريف ويومي العيدين وليلة البراءة؛ الأرز المفلفل، والحلو المزعفر" وعين لكل مرة "ثلاثة وتسعين مناً من الأرز النقي، وللطعامين المرقومين لكل مرة ستة وعشرين مناً، وثلاثة أداني من السمن البقري، وللمزعفر منها كل نوبة ثمانية وعشرين مناً من العسل الحري" ...

وحتى يضمن جودة تلك الأطعمة وتقديمها للفقراء بطريقة لائقة فإنه نص على توظيف أشخاص تكون مهمتهم: تنقية الحنطة والأرز حسبما تستريح أسنان الطاعم عند صدمة دقاق الحجارة عند تناول المطاعم، ويعطى لكل منهم كل يوم درهمان". أما تقديم الطعام فيقوم به "ثلاثة رجال لحمل الطاسات المحشوة بالطعام إلى فقراء الأنام الحاضرين - بالتكية - غدواً وعشياً، ويعطى لكل منهم كل يوم درهمان " [9].

ج - من أوقاف تونس ما ورد في تقرير الشيخ الورتاني عن تفقده لأوقاف الساحل التونسي في 18 ربيع الأول 1292 هـ - 24 إبريل 1875، وهو أن زيتون فطر الصائمين بجامعي القصبة والزاوية كان مغاراً عليه فاسترجع، وأن من مصروف الحبس الكبير للمنستير ثمن خبز لفطر الصائمين بالجامع الأعظم [10].

وقد نصت الست فاطمة عثمانة - وهي من أشهر المحسنات الواقفات في تونس - أن يصرف من ريع وقفيتها ما يكفي لشراء طعام وشراب المساجين المحبوسين في سجن القصبة [11]، ومن طرائف وقفيات تونس في رمضان ما شرطه بعض الواقفين للصرف على "توفير الزلابية لمؤذني جامع الزيتونة في ليالي رمضان[12] ؛ ربما لمساعدتهم على أن يكون صوتهم جلياً جهيراً حتى يسمعهم الناس بوضوح، وخاصة في وقت الإفطار ووقت الإمساك.

د - من أوقاف الشيعة بإيران وقف حاج ميرزا محمد باقر خان عماد الملك الذي يرجع تاريخه إلى سنة 1300هـ وقد خصصه للإنفاق على ما يربو عن 16 وجهاً من وجوه الخيرات، ولمنافع عامة منها تقديم الأطعمة للفقراء في رمضان وكسوتهم في العيدين [13].

ومن نماذج الوقفيات التي تبين اهتمام الواقفين بتقديم الكساوى والملابس في شهر رمضان بصفة خاصة؛ نشير فقط إلى المثال التالي من أوقاف المغرب الأقصى في عهد بني مرين، وهو ما ورد في إسعافات ابن عنان بشأن إجراء الصدقات وكسوة المساكين والضعفاء والعجائز والمشايخ الملازمين للمساجد بجميع جهات دولة بني مرين والتصدق يوم سبعة وعشرين من رمضان بما يجتمع في مجابي الأبواب [14].

وثمة أمثلة أخرى كثيرة تبين الاهتمام الكبير بتقديم مساعدات عينية في صورة ملابس وكساوى لفئات عديدة بمناسبة رمضان، ولكننا سندرجها ضمن "نمط الدعم المؤسسي" نظراً لأن أغلبيتها جاءت مرتبطة بإحدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية، أو التعليمية أو الخدمية العامة.

3- نمط الدعم العيني للمؤسسات المدنية:

وفي مقدمتها المدارس ومكاتب السبيل، ‏والأربطة، والخنقاوات، والتكايا والملاجئ.

وقبل أن نورد بعض النماذج التي توضح مدى اهتمام الواقفين بما أسميناه المؤسسات المدنية فإنه يجب أن نلاحظ أن "الوقف" كان هو المصدر الأساسي - وكاد أن يكون الوحيد - لدعم تلك المؤسسات ابتداء من نشأتها مروراً بإدارتها وتمويلها وضمان بقائها واستمرارها في أداء وظائفها. وقد كان هذا الدعم متواصلاً طوال شهور السنة، ولكن "شهر رمضان" كان مناسبة مهمة لكي تتلقى المدارس والمكاتب والتكايا ... الخ مزيداً من المخصصات من ريع الأوقاف في صورة نقـدية في قلـيل من الحالات أو "عينية" في أغلبها .

كما نلاحظ - أيضاً - أن كل مؤسسة من تلك المؤسسات لم تكن في الماضي تعمل بمفردها أو بمعزل عن غيرها في الواقع الاجتماعي، وإنما كان بينها قدر عال من التساند الوظيفي طوال أيام السنة، وفي شهر رمضان على وجه خاص، الأمر الذي أدركه الواقفون وأخذوه في اعتبارهم وهم يخصصون ريع وقفياتهم ويوزعونها على مصارف الإنفـاق المتعددة، ونادراً ما نجد "مدرسة" - مثلاً - أو مكتباً لتعليم القرآن، أو تكية قائمة بذاتها مستقلة عن غيرها، وإنما كانت في أغلب الحالات مشتركة مع مؤسسة أخرى أو أكثر ضمن إطار وظيفي - اجتماعي واحد، وكثيراً ما تطالعنا المصادر التاريخية بمجموعات متكاملة ومتجاورة من تلك المؤسسات كأن يكون المسجد الجامع ملحقاً به مدرسة ومكتب وتكية، أو تكون الخانقاة مشتملة على زاوية أو مسجد للصلاة، ومدرسة، وسبيل لتوفير المياه الصالحة للشرب وهكذا.

وهذا - التساند أو التكامل - الوظيفي هو الذي أعطى تلك المؤسسات بعدها الاجتماعي وعمَّق مغزاها المدني، وقـد أسهم الوقف في ذلك بالدور الأكبر، واحتل "رمضان" مكانة متميزة كمحفز معنوي لتوفير مزيد من الدعم المادي، ولتوثيق التكامل الوظيفي بين تلك المؤسسات التي حظيت بمزيد عناية خاصة في ليلة السابع والعشرين وهي ليلة القدر التي هي "خير من ألف شهر ".

وثمة أمثلة كثيرة على ما ذكرناه ومن ذلك الآتي :

أ-المدارس :

منها المدرسة الباسطية بالقدس، وكانت مخصصة للأيتام، وكان - كل يتيم يتقاضى حسب المعلومات المتوفرة عن سنة 834 هـ 15 درهماً شهرياً، وكان يعطى 30 درهماً بدل كسوة بمناسبة رمضان وعيد الفطر المبارك [15].

ومنها ‏مدرسة الحديث النبوي التي أسسها خاير بك سنة 908 هـ في عهد السلطان الغوري بمصر، وجعلها ملحقة بمسجده، وخصصها لتعليم الحديث الشريف يومياً خلال شهور رجب وشعبان ورمضان، على أن يعطي "معلوماً" لقارئ يقرأ الحديث يومياً طـوال الشهور الثلاثة من صحيح مسلم [16].

ومدرسة الأمير صرغتمش - بالقاهرة - الذي نص في وثيقة وقفه عليها أن يرتب مزملاتي مهمته جلب الماء من السبيل الموجود في المدرسة يومياً، نهاراً في أيام الفطر، وليلاً في رمضان، ويشترط في المزملاتي أن يكون خيراً متديناً يتمتع بصحة جيدة، ويصرف للمدرس في كل شهر ثلاثمائة درهم نقرة، ومن الزيت والطيب خمسة أرطال، ومن الصابون خمسة أرطال، كما يصـرف في رمضان - عـلاوة على ما سبـق - خمسة أرطال سكر [17].

وكذلك مدرسة الأميرة فاطمة بنت الخديوي إسماعيل، التي أنشأتها ووقفتها بمدينة المنصورة - بمصر - ووقفت عليها ما يكفي للإنفاق على تعليم البنين والبنات فيها، واختصت شهر رمضان بأن اشترطت "شراء كساوى لمئة وعشرين تلميذاً وتلميذة، من ذلك ستون تلميذاً ذكراً وستون تلميذة أنثى بشرط أن يكون المئة والعشرون المذكورون من المسلمين الفقراء، وتكون كسوة كل واحد من الستين تلميذًا مشتملة على بنطلون وزكته وصديري من الجوخ الوسط، وطربوش، وقميص ولباس بفته، وجزمة وشراب، وربطة ياقة، وتكون كسوة كل واحدة من الستين تلميذة الإناث مشتملة على فستان من الحرير الوسط، وقميص من البفتة الشاش، ولباس من القماش الدبولان، وجزمة وشراب بشرط ألا تقل قيمة كل كسوة من المئة والعشرين المذكورة عن جنيهين اثنين مصري - حسب أسعار بداية القرن العشرين - وأن يكون إعطاء الكساوى المذكورة للتلامذة والتلميذات على الوجه المسطور في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم من كل سنه لكل واحد منهم كسوته بيده، في محفل ( يحضره ) نائب عن ‏ناظر الوقف وناظر المدرسة والمدرسين بـها (… ) كما يشتري كساوى لموظفي المدرسة جميعاً، بحيث يشتري لكل موظف بها مسلم كسوة تعادل ملبوسه المعتاد، وتعطى له كسوته في الوقت الذي يعطي فيه للتلاميذ والتلميذات [18]، أي في ليلة السابع والعشرين من رمضان.

ب- "المكاتب":

وكانت تعرف بمكاتب السبيل، نظراً لارتباطها بوجود أسبلة مياه - وهي من إنشاءات الأوقاف أيضاً - وكانت منتشرة في المدن والحواضر الإسلامية على نطاق واسع عبر مختلف العصور، وبصفة خاصة في العصرين المملوكي والعثماني، وظلت منتشرة حتى مطالع العصر الحديث، ونسوق عليها مثالاً واحداً وهو "مكتب قولة"- باليونان - الذي أنشأه محمد علي باشا ووقفه في سنة 1232 هـ - 1817 بغرض تحفيظ القرآن، وجعله بالقرب من المدرسة والكتبخانة اللتين أنشأهما ووقفهما في "قولة" أيضاً .

وقد اشترط محمد على أنه في "صباح ليلة القدر الواقعة في 27 من شهر رمضان المعظم من كل سنة … يشترى لكل صبي من الخمسين صبياً - الذين يتعلمون بالمكتب - قفـطان ألاجه قيافة، وجبة وديزلك، وطربوش، وحزام، ومنديل رأس، وجوز مركوب وكسوتهم وإكرامهم، والذين يحفظون القرآن الكريم من صبيان المكتب المذكور يعطى لكل منهم بدلة هدوم، وخمسين قرشاً "إكراماً" لهم وتشويقاً لغيرهم [19].

ج- الخانقاوات والأربطة والتكايا والملاجئ[20] :

وجميعها كانت من المؤسسات الاجتماعية المدنية، التي أنشأتها الأوقاف، ومولتها بما تحتاج إليه من مصروفات ونفقات على مدار السنة، وقد أولاها الواقفون اهتماماً زائداً على ذلك في شهر رمضان بالذات؛ وحتى تتمكن من التوسعة على المستفيدين منها وهم من الفقراء والعجزة وكبار السن المنقطعين .

والأمثلة على هذه المؤسسات كثيرة أيضاً، ونشير هنا فقط إلى مثالين:

الأول: ما شرطه بيبرس الجاشنكير (المملوكي) في وقفيته على الرباط الـذي أنشأه، وهو أن يوزع في ليالي الجمع من شهر رمضان نصف رطل مصري مـن الحلوى على الصوفية والفقراء بالرباط، وكذلك في ليلة ختم القرآن في التاسع والعشرين من كل رمضان .. على أن ‏يضاعف نصيب شيخ الخانقاه وشيخ الرباط … وأن تكون الحلوى عجمية معمولة من الدقيق الطيب المستخرج من القمح والعسل المحلى بالسـكر والخشخاش ومـاء الزعفـران واللوز [21].

والثاني: ما نص عليه إسماعيل بك رفعت في وقفيته - التي أنشأها بالقاهرة - بتاريخ 16 جمادى الأولى 1284 هـ ( 1867م ) وهو أن النسوة العجائز الفقيرات المسلمات العجائز عن الكسب، الخاليات من الأزواج اللائي يقمن في الرباط الذي أنشأه بباب الخلق - بالقاهرة - " تعطي كل واحدة في شهر رمضان من كل سنة اثنى عشر ذراعاً من العبك [ نوع من القماش ] وستة أذرع من الشاش وحردة بلدي [22].

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو أن دور نظام الوقف ظل مستمراً في دعم معظم المؤسسات الأهلية - المدنية والدينية، مع عدم وجود فصل واضح بين هذه وتلك - وأن هذا الدعم كان يزيد في شهر رمضان بصفة خاصة، وذلك للأسباب التي شرحناها في مطلع هذه الدراسة.

كما تجدر الإشارة إلى أن هذا الدور الذي قام به نظام الوقف قد أخذ في الانحسار مع بداية العصر الحديث - ويؤرخ له عادة ببداية القرن التاسع عشر - حيث حصلت تحولات اجتماعية وسياسية وثقافية عديدة، وظهر نمط جديد " للدولة " ذات التنظيم الحديث، وذات المؤسسات والبيروقراطية المركزية، التي حلت تدريجياً محل تنظيمات المجتمع الأهلي وفعالياته المدنية الموروثة، واستبدلت غيـرها بها في بعض الحالات، وأدمجتها في أجهزتها الحديثة في حالات أخرى، وانطبق ذلك - فيما انطبق - على نظام الوقف، وعلى وظائفه التي كان يؤديها، ومنها وظيفته التي ارتبطت بشهر رمضان المبارك، وبغيره من المواسم والأعياد والمناسبات الدينية والاجتماعية، وهي ما أسميناها "الوظيفة الرمزية" ذات الأبعاد الثقافية والقيمية والأخلاقية، التي لها دور كبير في دعم التكافلات الأفقية والرأسية بين التكوينات الاجتماعية التي يتشكل منها كيان الأمة. وتسهم في تعميق هويتها الذاتية الإسلامية.

التوظيف السلطوي للوقف في رمضان

رأينا - خلال النماذج السابق ذكرها - كيف ارتبطت سنة الوقف بصوم رمضان؛ من باب التماس مزيد من ثواب الله والقـرب منه في هذا الشهر الفضيل وعرفنا كيف تطـورت عملية توظيف عوائد الأوقاف عبر تراكمات الممارسات الاجتماعية، وكيف تشعبت، وأسهمت في دعم التضامن الاجتماعي وفي التأكيد على روابط الهوية الثقافية والعقيدية، وكذلك في تنشيط الذاكرة الجماعية بالدلالات الرمزية والدينية، وبالقيم والمثل الأخلاقية التي ينطوي عليها شهر رمضان كموسم سنوي للعبادة ولسائر الأعمال الصالحات.

وبالتأمل في الروافد التي ارتبط الوقـف مـن خلالها برمضان، نجد أن هذا "الارتباط" هو جزء من سياسة أهلية عامة؛ اتجهت دوماً نحو توظيف بعض عوائد الأوقاف في إحياء المواسم والأعياد والاحتفالات، وأن هذه السياسة قد وفرت آلية منتظمة لتمويل إحياء القيم الرمزية للجماعة الإسلامية وللمحافظة عليها وترسيبها في الوعي الجماعي للأجيال المتعاقبة.

ولكن هذا كله كان فاعلاً في ظل علاقة خاصة بين المجتمع - وبالأحرى الأمة - وبين الدولة، وقوام هذه العلاقة هو التعاون والتوازن وعدم طغيان طرف على الآخر. وعندما اختلت هذه العلاقة لصالح "سلطة الدولة" الحديثة التي ظهرت وتبلورت تدريجياً في مختلف مجتمعات العالم الإسلامي - على مدى القرنين الأخيرين - تراجعت وتبدلت وظيفة الوقف في هذا المجال مثلما تراجعت وتبدلت في غيره من المجالات الأخرى.

أما التراجع فقد كان لأسباب كثيرة، أهمها تدخل الدولة في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية وهيمنتها عليها، وقيامها بأداء كثير من الخدمات التي كان يمولها نظام الوقف. والذي حدث هو أنه كلما زاد تدخل الدولة قلت المبادرات الاجتماعية بالوقف على المجالات التي تتدخل فيها.

وأما التبدل فـقد حـدث نتيجة لانتقال نظام الوقف في معظم جوانبه الوظيفية - من الحيز الاجتماعي إلى الحيز الحكومي، حيث تم إدماج مؤسسات الأوقاف في الجهاز البيروقراطي للدولة الحديثة في كثير من البلدان الإسلامية وصارت خاضعة لإدارتها المركزية، سواء فيما كانت تقوم به من خدمات تعليمية أو صحية، أو فيما كانت تقدمه من دعم مادي وعيني لإحياء المناسبات والأعياد والمواسم، والمحافظة على استمرارية منظومة القيـم الدينية والثـقافية للجـماعة [23] ، بما في ذلك الدور الذي كانت تؤديه بمناسبة شهر رمضان وعبادة الصوم على النحو السابق بيانه.

لقد اعتبرت الدولة الحديثة - وهي تسعى لتثبت أقدامها في الكيان الاجتماعي للأمة - أن العناية بالشعائر الكبرى وبإحياء تقاليدها، مهمة من مهماتها الحكومية، وأوكلتها إلى وزارة مختصة بذلك هي "وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية"؛ التي أصبحت - منتصف القرن العشرين - هي المسؤولة عن إدارة جميع الممتلكات الوقفية، وهي المنوط بها السهر على رعاية شروط الواقفين بما فيها شروطهم الخاصة بالإنفاق من ريع وقفياتهم في شهر رمضان - محل اهتمامنا في هذه الدراسة - وقد نصت على ذلك التشريعات والقوانين التي أصدرتها الدولة في هذا الشأن.

صحيح أن رموز السلطة الحاكمة - قبل ظهور الدولة الحديثة - من الملوك والسلاطين والأمراء، كانوا يسهمون في تنظيم الاحتفالات بالمواسم والأعياد وفي رعايتها وتوفير التمويل اللازم لها؛ بيد أن إسهاماتهم كانت على سبيل المشاركة في المناسبة، وليس على سبيل الاحتكار السلطوي للاحتفاء بها، فضلاً عن أن هـذه المشاركة كانت في أغلب الأحوال - علي نفقتهم الخاصة، أو من ريـع وقفياتهم على نحو ما أشرنا إليه - على سبيل المثال - بالنسبة للسلطان حسن، والسلطان سليمان القانوني، ومحمد علي باشا، وغيرهم من ممثلي السلطة الحاكمة [24].

أما في ظل "الدولة الحديثة" فقد أصبح من المعتاد أن تحتكر وزارات الأوقاف عملية تنظيم الاحتفالات بالأعياد والمواسم الدينية، وخاصة شهر رمضان الذي تحتفل بقدومه، وبليلة القدر وبذكرى غزوة بدر الكبرى، وتنظيم بعض السرداقات والأنشطة الثقافية خلال هذا الشهر الكريم، وهي في كل ذلك تعبر عن رؤى السلطة الحاكمة وتوجهاتها، بل وتحرص رموز هذه السلطة على حضور تلك الاحتفالات، في الوقـت الذي يتم الإنفاق عليها من ريـع الأوقاف التي تديرها "الوزارة" أو الهيئة الحكومية المسئولة عن الأوقاف، ومبرر هذا الإنفاق هو تنفيذ "شروط الواقفين" الذين اشترطوا إنفاق بعض ريع وقفياتهم في هذه المناسبة. على أننا نلاحظ قلة قليلة ممن ينالون شيئاً من تلك النفقات تنطبق عليهم شروط الواقفين التي وضعوها للتوسعة على الفقراء وذوي الخصاصة، وللإسهام في دعم القيم المعنوية والرمزية وترسيخ طابعها الجماعي، وتفعيل دورها في الارتقاء بالمشاعر الوجدانية، إلى جانب دورها في التمكين من أداء فرائض الإسلام وعباداته وفي مقدمتها الصلاة والصيام.

وبدلاً من هذا كله غدت الوظيفة الرمزية للاحتفال على يد وزارات الأوقاف جزءاً من آليات تكريس السلطة الحاكمة، وإضفاء قدر من الشرعية عليها، وهذا هو ما أطلقنا عليه التوظيف السلطوي للوقف في رمضان عوضاً عن أن يكون توظيفه اجتماعياً آلية لدعم التكافلات الأفقية والرأسية في هذه المناسبات، وإكساب التكوينات الاجتماعية والجماعات المحلية قدراً من جلال المناسبة المحتفى بها، وتنشيط قيمها الأخلاقية ودلالاتها الرمزية.

وإذا تأملنا - في نهاية المطاف - في مسار العلاقة بين الوقف كمندوب وبين صوم رمضان كواجب شرعي؛ عبر الممارسات الاجتماعية وما آلت إليه في ظل الدول الحديثة - في معظم بلدان العالم الإسلامي - سنجد أن قوة هذه العلاقة قد وهنت، وأن وظيفتها السابق شرحها قد انتقلت من حيزها الاجتماعي إلى الحيز السلطوي الحكومي، وذلك ضمن السياق العام الذي سيطرت فيه الدولة على نظام الوقف برمته، وفككت روابطه بالتكوينات الاجتماعية الأصيلة والموروثة وفـي مقدمتها الأسرة، والطائفة المهنية أو الحرفية، والطريقة الصوفية، والعلماء، وكثير من المؤسسات المدنية والدينية في آن واحد.

وقد نخلص إلى القول بأن تقويض الممارسة الاجتماعية للمندوب الشرعي، وعزله عن روافده التلقائية، وضبطه سلطوياً بعيداً عـن مجاله في خدمة فرائض الإسلام، كل ذلك قد أسهم في حدوث خلل في مقومات التوازن الاجتماعي، وأدى إلى ضعضعة مصادر قوة المجتمع في علاقته مع سلطة الدولة، وهذا رأينا الذي سقناه يؤخذ منه ويترك، ومن جاء بأحسن منه قبلناه.

اقرأ أيضا:

رعاية المصلحة في الوقف الإسلامي

رعاية المصلحة في الوقف الإسلامي (تعقيب)

استثمار الوقف وطرقه القديمة والحديثة

فاعلية نظام الوقف في توثيق التضامن بين المجتمع والدولة في دول الخليج العربي

--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية ( تونس المطبعة الفنية بنهج المفتي، طبعة أولى 1369 ) ص 50.

[2] انظر أبو يعلي الحنبلي : الأحكام السلطانية، صححه وعلق عليه محمد حامد الفقي ( القاهرة : 1916 ) ص 98

[3] انظر : أبو بكر الخصاف : أحكام الأوقاف ( القاهرة : 1904 ) ص 6.

[4] حجة وقف محررة بتاريخ 20 جمادي الأولى 1369 - 9/3/1950 أمام محكمة دمنهور الشرعية - مصر - (سجلات وزارة الأوقاف - سجل رقم 900 / بحري - مسلسلة 22228)

[5] انظر : جعفر الحسني : التكية السليمانية في دمشق / مجلة المجمع العلمي العربي - بدمشق - الجزء الثالث - المجلد الحادي والثلاثون - تموز 1956 - 22 ذو الحجة 1375 ( ص 439).

[6] انظر : محمد شريف عمر : مؤسسة الأوقاف في العراق ودورها التاريخي المتعدد الأبعاد، بحث في ندوة مؤسسة الأوقاف في العالم العربي الإسلامي ( بغداد : 1983 ) صورة حجة الوقف ملحقة بالبحث.

[7] انظر راشد القحطاي : وقفية مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، في ندوة المكتبات الوقفية في المملكة العربية السعودية - مكتبة الملك عبد العزيز المدينة المنورة 25 - 27 محرم 1420 هـ - وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف - ص 24

[8] انظر وثيقة وقف السلطان حسن رقم 881 - سجلات وزارة الأوقاف المصرية.

[9] انظر حجة السلطان سليمان على التكية السليمانية مرجع سبق ذكره، 443 -445.

[10] انظر : أحمد قاسم : الوقف في تونس في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، دراسة في كتاب : الوقف في العالم الإسلامي أداة سلطة - اجتماعية وسياسية، تقديم راندي ديغيلم ( دمشق : 1995 ) ص 26، ص 27.

[11] انظر المرجع السابق، ص 42 و ص 45.

[12] انظر المرجع السابق، ص 42 و ص 45.

[13] حجة وقف حاج محمد ميرزا باقر خان المحررة في رمضان 1300 هـ محفوظه بدائرة أوقاف مدينة خراسان؛ نصها فارسي، وقد أطلعنا على موجز لها بالعربية في مركز المعلومات بالأمانة العامة للأوقاف – الكويت.

[14] انظر : ابن جزي، تحفة الأنظار جـ2 / 184 .

[15] انظر : كامل جميل العسلي : مؤسسة الأوقاف ومدارس بيت المقدس في ( مؤسسة الأوقاف في العالم العربي الإسلامي .. ) مرجع سابق / ص 102 .

[16] Doreis Behrens - Abouseif : Egypt's Adjustment to Ottoman Rule :Institutions waqf and Architecture in Cairo ( 16 th and 17 th centuries, (New York, 1994) p183.

[17] انظر وثيقة وقف الأمير صرغتمش، نشر ودراسة د. عبد اللطيف إبراهيم - مجلة كلية الآداب جامعة القاهرة - مجلد 28 - 1966 ( القاهرة ) ص 35 .

[18] حجة وقف الأميرة فاطمة المحررة بتاريخ 24 شعبان 1328 - 29 / 8 / 1910، أمام محكمة مصر الشرعية (سجلات وزارة الأوقاف 1623 / 15 مصر) .

[19] حجة محمد علي باشا المحررة بدار السلطنة العلية بالآستانه في 1 ربيع الآخر 1232 هـ سجلات وزارة الأوقاف المصرية 433 / 22 أهلي قديم

[20] الخنقاوات ( ج - خانقاه ) هي كلمة فارسية ومعناها البيت، وكانت مقراً للصوفية ينقطعون فيها للعبادة - أما الأربطة ( ج - رباط ) فهي عربية الأصل ومعناها مكان إقامة الحامية المرابطة عند الثغور المتاخمة للعدو، ثم أصبحت بمرور الزمن مكاناً لإيواء الزهاد والفقراء، أما التكية فهي في معنى الرباط، وقد تطورت عن الخانقاه، وكذلك الملاجئ يمكن اعتبارها تطويراً للتكايا وأنظر كتابنا : الأوقاف والسياسة ( القاهرة : 1998 ) ص 307 – 316 .

[21] وثيقة وقف بيبرس الجاشنكير ( سجلات وزارة الأوقاف - ودار الوثائق القومية رقم 22 محفظة رقم 4).

[22] حجة وقف إسماعيل بك المحررة أمام محكمة الإسكندرية الشرعية ( سجلات وزارة الأوقاف 60 / 1 الإسكندرية) ص 131 ص 132، والحردة المذكورة عبارة عن قطعة قماش تستعملها النساء كغطاء للرأس ولا زالت هذه الكلمة مستعملة في صعيد مصر .

[23] لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع أنظر كتابنا : الأوقاف والسياسية، مرجع سابق، ص 512 - ص 514 ومواضع متفرقة من الكتاب

[24] لمزيد من التفاصيل حول اهتمام أهل مصر - على سبيل المثال - بالاحتفالات الإسلامية في المواسم والأعياد، واعتمادهم في ذلك على الأوقاف والصدقات وأثر ذلك في دعم التماسك الاجتماعي أنظر : إلهام محمد علي ذهني : مصر في كتابات الرحالة والقناصل الفرنسيين في ق 18 ( القاهرة : 1992 ) ص 318 - ص 323.

No comments:

Ramadan

الغزالي